دونالد ترامب ليس مخطئاً كلياً بشأن الصين، وهذا يتيح لإدارته فرصة لإعادة رسم وتشكيل ملامح ما يمكن أن يصبح أخطر علاقة ثنائية في العالم، إنْ لم يتم التعامل معها بعناية، فخلال الحملة الانتخابية، كان ترامب في الغالب مخطئاً في تقييمه للعالم، فحلف «الناتو» لم يعفِّ عليه الزمن، واليابان وكوريا الجنوبية لا تستغلان الولايات المتحدة، والتجارة بين المكسيك وكندا والولايات المتحدة كانت وما زالت مفيدة للبلدان الثلاثة معاً، كما كان مخطئاً في حديثه عن الصين من عدة نواح، فهذه الأخيرة ليست بلداً متلاعباً بالعملة، مثلما يقول ترامب، لكن رسالته الجوهرية حول الظلم وعدم التوازن في العلاقات الثنائية كانت صحيحة، فالصين لا تشتغل وفق القواعد نفسها مثل الجميع. فعندما شجّع الرئيس كلينتون دخول الصين إلى منظمة التجارة العالمية، كان المتوقع حينها هو أن الصين ستصبح رخاءً، كما ستصبح أكثر تحرراً اقتصادياً وأكثر تسامحاً سياسياً. التوقع الأول تبين أنه صحيح، وهو بحد ذاته كافٍ لتبرير قرار الغرب، فقد ساعدت العولمة الصين على انتشال الملايين من مواطنيها من الفقر، وهو إنجاز غير مسبوق في التاريخ البشري، كما أن البلاد تنعم اليوم بالسلام والاستقرار، وهو شيء لا تنبغي الاستهانة به نظراً لتاريخها الحافل بالاضطرابات. وإلى ذلك، فإن الكثير من مشاكلها، مثل تلوث هوء المدن وحركة المرور والاستفادة من المدارس.. هي من نوع المشاكل والتحديات التي تواجهها طبقة وسطى لم تكن موجودة قبل عقدين. لكن اللافت هو أن الحزب الشيوعي أصبح أكثر قمعاً، فالتبتيون والويجور باتوا يواجهون خطراً أكبر، والإنترنت أضحت وسيلة من وسائل المراقبة وليس نافذةً على العالم، والمساحة الممنوحة للصحافة النزيهة والنقاش الأكاديمي آخذة في التقلص باستمرار، كما أن الصين تتنمر على جيرانها وتكثف مطالباتها الترابية حيالهم. وإلى ذلك، فإن الاقتصاد الصيني، الذي يغري المستثمرين الأجانب ويجذبهم، ما زال أبعد ما يكون عن الاقتصاد المفتوح، كما أن الصين وجدت طرقاً لنقل التكنولوجيا من الشركات الغربية دون أن تمنح هذه الأخيرة إمكانية الوصول إلى أسواقها، وفي مجال الصحافة والإعلام، تفرض الصين قيوداً صارمة على الصحافيين المسموح لهم بدخول أراضيها، وتمنع شعبها من قراءة معظم كتاباتهم، في حين أن أذرع آلتها الدعائية لا تواجه عراقيل مماثلة في الغرب. لكن شن حرب تجارية على المنتجات الصينية، عبر فرض تعرفات جمركية مثلاً، سيؤذي الصينيين والأميركيين معاً ولن يحقِّق نتيجة، ثم إنه على الولايات المتحدة ألا تسهّل على النظام الصيني تصويرها كعدو للشعب الصيني، كما لا ينبغي لها أن تميل إلى الاتجاه الآخر وتسعى لإبرام نوع من الصفقات الكبرى مع النظام الصيني على حساب الشعب الصيني، أو حلفاء الولايات المتحدة الديموقراطيين. لقد وفَّر ترامب مثالاً لكيفية عدم القيام بأشياء عندما أجرى مكالمة هاتفية مع رئيسة تايوان، والحق أن المكالمة بحد ذاتها، وإنْ شكّلت قطيعة مع السياسة الأميركية التقليدية، لم تكن عملاً غير معقول: فتايوان حليف ديموقراطي، ولا شيء يمنع من التحدث مع قادتها، لكن ترامب أعقب المحادثة بتغريدة على تويتر قدَّمت المكالمة الهاتفية كرد على السلوك الصيني، الأمر الذي أثار حفيظة بكين، حيث تساءل: «هل سألتنا الصين إن كان لا بأس من خفض قيمة عملتها (ما يجعل من الصعب على شركاتنا التنافس)، أو فرض رسوم كبيرة على منتجاتنا (أميركا لا تفرض ضرائب مماثلة)، أو إنشاء مركب عسكري ضخم وسط بحر جنوب الصين؟ لا أعتقد ذلك». والمؤكد أن إدارة ترامب لا تستطيع تحديد مسار الصين، لكنها تستطيع ممارسة بعض التأثير إن انخرطت في المنطقة على نحو نشط وظلت مخلصة لقيمها وقيم حلفائها الديموقراطيين. وفي هذا السياق، لا بد من إدراك أن الاهتمام بحقوق الإنسان لا ينبغي أن يقايض بتنازلات اقتصادية، بل على العكس، ذلك أن مبادئ السوق الحرة والحرية السياسة يوجدان على الجانب نفسه من العملة. وخلاصة القول أن على ترامب أن يشدد على المعاملة بالمثل في العلاقات الاقتصادية، لكن بما يتوافق مع مبادئ النزاهة والعدالة ومبادئ الحرية الاقتصادية، وليس مع السعي لكسب موقف أقوى فقط، فالعمال الأميركيون سيستفيدون، والشركات الأميركية كذلك، لكن الشعب الصيني هو من سيستفيد أكثر.