ماذا حصل فوق قمة جبل كليمنجارو قبل أكثر من ثلاث سنوات ونصف السنة لقلب هذا الروائي المُبدع إبراهيم نصر الله المجبولة روحه وحروفه وعيونه بهوى فلسطين وجرحها؟ سكن الجبل قلبه وأطلق فيه صرخة لم تهدأ إلا عندما سالت حروفاً روائية جميلة، شيقة ورشيقة بعنوان «أرواح كليمنجارو». قارئ النص لا يقرأ وحسب بل يتسلق جبلاً، يتحدث مع الهواء، يغازل منحدراً هنا، ويماشي أشجاراً هناك، يحدق في قوافل الأرواح القادمة بحثاً عن شيء غامض. نص إبراهيم نصر الله يصنع أطرافاً صناعية للقراء حيثما كانوا ويبعث فيها الحياة والروح ليشاركوه وياسمين ومعتصم مغامرة التسلق الكبيرة. ياسمين ابنة نابلس بساق واحدة، ومعتصم ابن غزة بساق واحدة أيضاً. كلاهما أفقده جيش الاحتلال الإسرائيلي ساقاً في الانتفاضة الثانية. آلاف المتسلقين لا يصلون إلى القمة ويتعبون، لكن ياسمين ومعتصم وإبراهيم يصلون إليها وفوقها يرفعون علم فلسطين. «أرواح كليمنجارو» تنتشر من حولنا هذه الأيام لفوزها المُستحق بجائزة كتارا للرواية العربية. روح إبراهيم الكليمنجاروية ظلت مع أطفال فلسطين الذين قادوه إلى القمة فقدم قيمة الجائزة (ستين ألف دولار) دعماً لجمعيتهم. إبراهيم يتفوق علينا جميعاً ويسبقنا جميعاً: بساقيه ونبله. قبل أكثر من ثلاث سنوات كتبت: «ساق واحدة فقط تبقت لياسمين، وساق واحدة فقط تبقت لمعتصم، هما ما ورثاه من الانتفاضة الثانية في عمرهما القصير. كانت السنوات تركض متباهية لتكسو حياة الولدين، وكانت قنابلُ وحياةُ قاسية تسابق العمر لتبتر الساقين. اليوم ياسمين ومعتصم في عمر اليفاعة والمراهقة يجري كل منهما بساق بقيت وأخرى صناعية استنبتت. بعد أسبوعين من الآن وأكثر قليلا، في السابع عشر من يناير 2013، سيكون الاثنان قد شرعا تسلق جبل كليمنجارو، رابع قمم العالم ارتفاعاً. سيتعقبان هاري بطل قصة أرنست همنجواي (ثلوج كليمنجارو) الهائم على وجهه بلا بوصلة وقد فقد معنى الحياة، وصار بلا هدف، فيمسحان بأيديهما الصغيرة عرق جبينه ويهدهدان قلقه ويقدمان له على طبق من أمل حجراً مقدساً وغرفة ماء، وبوصلة حياة ومعنى. هناك فوق القمة الملتهبة من برودة (شيطان البرد) كما يعني اسم الجبل بالسواحلية سيُضرب موعد عشق بين جبل جرزيم وبحر غزة في رحلة السيقان النابتة دعماً لحملات إغاثة الأطفال الفلسطينيين المصابين أو المرضى ممن لا يجدون من يساعدهم على استنهاض طرف فقدوه، أو إنهاء مرض استبد بهم. الخشية الوحيدة في الرحلة هي في إغواء السباحة في الغيم الأبيض الذي قد يستحوذ على معتصم ابن البحر وهاويه». ويومها كتب اليراع الرهيف لإبراهيم نصر الله: «هناك الكثير ولكنهم ههنا لا يريدون غير الأقل جدةً قرب رأس الصغيرة تحكي حكاياتها لم تزر ذات يوم طبيباً ولم تتناول دواءً تدور كزيتونة في السهول وقبل صياح الديوك تشق دروب الأمل ، وبصحبتها يضربون المثل هناك الكثير.. ولكنهم ههنا لا يريدون غير الأقل: صعود الجبل». كم كانت كلماته أخاذة ذلك القائد وكم نفذت إلى قلب التاريخ والمستقبل. كليمنجارو ازداد غموضاً وبهاءً وطقوسية. صار كالجد الخرافي لا للقارة الشابة وحدها، بل لكل يفاعة الشباب والانعتاق. تحول من جبل ثلجي يضيع فيه هاري وتلتبس الأمور على همنغواي عند التأمل فيه، إلى نار مشتعلة بالدفء، إلى منارة وسط بحر الغيوم في السماء يستهدي بها المتسلقون نحو الأمل، ينفضون اليأس ويدوسونه بسيقانهم الصناعية، يشدهم إلى قمته وعد بالحب وموعد عشق يلتقي فيه الجبل والبحر، ومن هناك يرميان الكراهية في هاوية العدم. ذلك السر الدفين في هذا الشيء الغامض المُسمى «الأمل» هو ما دفع مئات المتطوعين لدعم ياسمين ومعتصم في رحلة السيقان النابتة نحو القمة. هو جزء من جهد ساقه الأمل والحب وعوض مئات من الأطفال مثلهم ممن فقدوا أجزاء عزيزة من أجسادهم، وهو الجهد الذي ينتزع انحناءة تبجيل وإجلال. لكن ياسين ومعتصم سيكونان أول مراهقين يتسلقان الثلج هناك بسيقان اصطناعية. وسيكونان بطبيعة الحال أول فلسطينيين وعربيين يقومان بذلك. الجندي الدؤوب وراء الرحلة هي سوزان الهوبي، عاشقة أخرى للأمل والجبال والققم، وأول عربية وفلسطينية تتسلق قمة أيفريست. كأنما مسها سحر القمم بعد أن عرفت طعم الغيوم من فوق الجبال. قريباً من القمة هناك فوق كليمنجارو حيث يثقل الهواء ويقل أوكسجينه وتضرب الرئتان وقبلهما تكون الساقان قد أنهكتا، تتمرد أرواح الصاعدين على نداء الضعف الإنساني المُغري بالتوقف والعودة والبقاء في جانب السلامة. كلما صعدوا إلى القمة يرون الأشياء أكثر وضوحاً، يكتشفون أن وصولهم إلى الذروة يعني اكتشافهم للجبروت الداخلي في ذواتهم.