من الطبيعي أن يكون مفهوم الديمقراطية له هذا السحر والألق، فقد تعاملت معه النخب العربية منذ حركات الإحياء والإصلاح والنهضة على أنه «عصا موسى» التي تأتي بالمعجزات، وتؤسس لكل معاني الإصلاح والرخاء والسعادة، غير أن الانقلابات التي بدأت منذ الأربعينيات بانقلاب الكيلاني على عبدالإله بن علي الهاشمي في العراق، ومن ثم انفرط عقد الانقلابات بمصر في الخمسينيات وسوريا في السيتينيات. وصعدت الأنظمة العسكرية باسم الديمقراطية، وأصبحت المعارضة أشرس من النظام القائم، بدليل أن صدام حسين كان معارضاً ومن ثم حكم ديكتاتوراً، وكذلك القذافي الذي انقلب إلى أكبر ديكتاتور، واستمرت «مسرحيات الديمقراطية» لتصل إلى هذا المستوى الذي نراه من التخبط والفشل في كل التطبيقات العربية. في حوار أجري مع المفكر والمؤرخ هشام جعيط في صحيفة «المغرب» في 17 مايو الجاري، قال: «في العالم العربي، وفي البلدان التي وقعت فيها ثورة، في مصر وليبيا وسوريا واليمن، أعتقد أن مستوى العقلانية أضعف بكثير مما هي عليه في تونس وفي الحقيقة وإلى حدّ ما فإن ما قاله السيسي في مصر (مصر ليست مستعدّة للديمقراطية)، فيه جانب من الصحة». ثم يشير إلى المرض بالاهتمام السياسي قائلا: «مرض الاهتمام بالسياسة ليس سببه فقط الثورة والغليان الذي حصل بعدها، إنما هو قديم في الرقعة العربية، قديم جداً، يعني أنّ فترات الكفاح ضد الاستعمار في المغرب وفي المشرق كان خلالها الاهتمام بالسياسة كبيراً جداً لتحسيس الجمهور بالعمل السياسي باعتباره سبيلا للتحرر والاستقلال». برهنت الدول الخليجية، وبخاصة تلك التي تنمو بسرعة مثل الإمارات والبحرين والسعودية، على أن «الموضات» السياسية سواء جاءت باسم الديمقراطية أو الثورة أو الحركات الإصلاحية ليس شرطاً أن تحقق التقدم والازدهار، بل على العكس ربما جرّت البلدان إلى تاريخ طويل من الخراب. وإذا كان تشرشل يعتبر الديمقراطية أقل الأنظمة سوءاً فإنها في التطبيق العربي هي أكثر الأنظمة سوءاً وتدميراً. من يصدّق أن بشار الأسد يرشح نفسه للانتخابات في ظل أكبر حرب أهلية في تاريخ العرب المعاصر، وفي دولة تشهد أكبر مجزرة منذ الحرب العالمية الثانية! ومن يصدّق أن صدام حسين كان يفوز بنسب تصويت تصل إلى الـ99 بالمئة، وكذلك الأمر كان في معظم الديمقراطيات العربية؟! إن الديمقراطية ليست صناديق اقتراع، وإنما تحتاج إلى ظروف ومناخات وتراكمات تاريخية وثقافية وفكرية واجتماعية لتنضج. الديمقراطية حينما نضجت في أوروبا لم تأت على ظهر دبابة، كما لم تؤخذ من بطون الكتب، بل نضجت بظروف الناس، بعرقهم، بخبزهم، استوت على سوقها بعد أن وجدت التربة التي تحتضنها فانزرعت فيها كما تزرع العشبة الملائمة بعد أن توفرت كل الشروط. إنها تحتاج إلى الكثير من الجهد والعناء لتكون مواتية. الديمقراطية حين يمسك بها أي تيار شمولي تتحول إلى ديكتاتورية مؤقتة، حتى لو كان الحزب سيخرج بعد سنوات من الحكم فإنها ديكتاتورية مؤقتة، ولهذا فإن الأنظمة المستقرة المهتمة بالتنمية أفضل من ديمقراطية المالكي والغنوشي والأسد. من هنا نكتشف أن التجارب العربية مع الديمقراطية لم تكن ناجحة أبداً، بل خسرت الشعوب كثيراً من أنظمة تدعي الديمقراطية، ولعل «رومانسية المشهد الثوري» الذي صحب ما عرف بـ«الربيع العربي» جعل الديمقراطية من الثوابت المقدسة التي لا يمكن المساس بها. علماً بأن المفكرين الأوروبيين أنفسهم بحثوا في الديمقراطية بوصفها تنتج الحلول والإشكالات بنفس الوقت. فهي ليست العصا السحرية. بالفعل الديمقراطية تحتاج إلى شروط كبرى لا يوجد أي منها في العالم العربي حالياً.