لابد أن نقرّ أن أي شخص يود لو أوتي مثلما أوتي فلاديمير بوتين في الوقت الراهن، فأعداؤه يهابونه وحلفاؤه ممتنين له، و«جمي فالون» يقلده، وحتى «إدوارد سنودن» ودّ لو يصبح صديقاً له، ولإيجاز ذلك تقول المحللة الجيوسياسية «أليسيا كيز»: «إن هذا الرجل متألق». وبالطبع، إن اقتصاد دولته على شفا الانهيار ويغرق بسرعة كبيرة، ولكن ماذا يعني ذلك لرجل تقدر ثروته الشخصية بالمليارات؟ وفي الحقيقة، يعتقد أوباما أن بوتين يضر روسيا بسبب استفزازاته في أوكرانيا، ولكن الشعب الروسي ـ حيث الناخبين المسؤولين بصورة مباشرة عن انتخاب رئيسهم إذا ما كان أحد يعتقد أن روسيا دولة ديمقراطية فعلاً ـ يمنحه نسب تأييد ودّ أوباما لو ضحى بنفسه ليحظى بمثلها. ويبدو على الأرجح أن الاتفاق الذي أبرمه الغرب والروس الأسبوع قبل الماضي مع أوكرانيا مجرد تهدئة لبعض التوترات بين الشرق والغرب، مانحاً بوتين أكثر ما يريد. ولا ريب في أن الفوز بشبه جزيرة القرم يحمل معه كثيراً من التحديات، بالنظر إلى أن المنطقة تعتبر سلة اقتصادية مهمة، غير أن تشييد البنية التحتية اللازمة لربطها بروسيا سيكلف مليارات الدولارات. ولكن ضم القرم لم يكن مجرد لم شمل عاطفي لشبه الجزيرة مع وطنها الأم بعد أن كانت مهدرة على مدار جيل كامل فحسب، وإنما أيضاً لم يكلف هذا الأمر بوتين شيئاً يذكر أكثر من تخويف خصومه للحصول عليها. ولا تعدو العقوبات التي فرضها الغرب الخائف على بوتين سوى «عقوبات انتقائية» غير مؤلمة. وقائمة انتصارات بوتين طويلة، ولا تشمل القائمة فحسب ضم القرم من دون نقطة دم، وما يرتبط به من دعم سياسي حصل عليه في الداخل، وإنجاز إجراءات طلاقه من زوجته، وتشي التقارير بأنه منذ ذلك الحين دخل في علاقة مع أخصائية رياضية روسية. وتحتوي القائمة أيضاً على دورة الألعاب الأولمبية في سوتشي، التي مضت على ما يرام لكل من المدينة المضيفة واللاعبين الروس، بغض النظر عن كثرة الكلاب الضالة ومشكلات الصرف الصحي. وقبل كل ذلك كانت هناك المقامرة الروسية التي لعبها بإتقان للحيلولة دون توجيه ضربة أميركية ضد النظام السوري الحليف لموسكو، إضافة إلى المكاسب على صعيد النفوذ الدولي المرتبط بالدور المركزي الذي تلعبه روسيا في المفاوضات النووية مع إيران. وحتى إذا كانت مكالمات وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف لا تجد دائماً من يرد عليها في «الكرملين»، وحتى إذا كان البعض في الحكومة الأميركية يصفونه بـ«الكسول»، فإن الدبلوماسية الروسية تحظى الآن بأهمية عالمية أكثر من أي وقت مضى خلال العقدين الماضيين. وبالطبع كانت هناك قضية «سنودن»، الذي منح لجوئه المتفق عليه إلى موسكو بوتين ليس مجرد طريقة لمضايقة الغرب، وإنما كان سلاحاً ذا حدين، فمنح اللجوء لرجل يعتبره كثيرون بطلاً لكشفه عن انتهاكات المراقبة الأميركية، وفي الوقت ذاته منح أجهزة الاستخبارات الروسية سبيلاً لكنز دفين من المعلومات الثمينة التي يمتلكها سنودن. ولا تزال الأيام تخبئ ما هو أفضل بالتأكيد لفلاديمير بوتين، ولا سيما أن قواته محتشدة على الحدود الأوكرانية، بينما تثير قواته الخاصة وجواسيسه اضطرابات داخل الدولة، وعلى الأرجح لن تكون هناك حاجة لغزو روسي كي تحقق موسكو أهدافها. ولعل الاتفاق الدبلوماسي ـ الذي ربما يكون جيداً لكافة الأطراف ـ يساعد على تحقيق هذا الهدف الروسي، فعندما تبدأ أوكرانيا إعادة صياغة دستورها، فعلى الأرجح ستعتمد ذلك النظام الفيدرالي الفضفاض الذي يريده بوتين، وهو ما يمنح حكماً ذاتياً للمناطق الشرقية، ويُمكّنها من التقارب بصورة وثيقة مع موسكو والابتعاد عن كييف. وعلى رغم ذلك، ربما لن يكون الانتصار السياسي في أوكرانيا هو أكثر الانتصارات أهمية في سياسات فلاديمير بوتين، فبقدر ما كان عدوانه على القرم قاسياً وصادماً، لا شيء يقارن بالألم الذي سيسببه انتصار بشار الأسد في سوريا، وخصوصاً أن هذا القاتل الجماعي الذي استخدم الأسلحة الكيماوية ضد شعبه، والذي كان يفترض أن يكون مصيره كغيره من الطغاة، يبدو الآن أن له اليد العليا في دولته التي دمرتها الحرب الأهلية. ولطالما طالب أوباما الأسد بترك السلطة، وهذا يبدو الآن مستبعداً تماماً، بينما قاد بوتين الدفاع الدولي عن مجرم الحرب الذي اعتبره ببرود أفضل ضمانة ضد التطرف. وما لم يحدث تغير كبير على الأرض، فإن تصميم كل من بوتين والأسد وأنصاره الإيرانيين سينتج نصراً على المعارضة المعتدلة المهترئة التي أيدها الغرب على استحياء على نحو غير ملائم. وبالنظر إلى أن الولايات المتحدة سرعان ما ستسعى إلى استعادة علاقات العمل مع الروس من أجل الحصول على تعاونهم بشأن الاتفاق النووي مع إيران، فلن يسفر ذلك سوى عن شعور بوتين بمزيد من القوة. وعلى رغم ذلك، لا شيء يدوم، وعاجلاً أم آجلاً، سيواجه بوتين نهايته التاريخية، فبعد كل شيء، ومثلما يذكر بنفسه، ربما أنه فاز بأوستيا الجنوبية وأبخازيا في عام 2008، لكنه أرسل بقية جورجيا إلى أحضان الاتحاد الأوروبي، وبالتأكيد، ستريد مناطق غرب أوكرانيا مزيداً من الحماية، ومثلها الدول الأخرى في شرق أوروبا. ولا ريب في أن ذلك سيفضي إلى علاقات جديدة، ليس فقط مع الاتحاد الأوروبي، ولكن أيضاً مع حلف شمال الأطلسي، الذي سيبدأ في النهاية إعادة تقييم وتحديث مهمته، وستبحث أوروبا عن سبل لتقليص اعتمادها على الطاقة الروسية. وعلى رغم أن ذلك ربما لن يؤذي روسيا بشكل كبير، فمثلما يشير البعض هناك كثير من الشركاء مثل الصينيين الذين سيودون شراء ما لا يريده الأوروبيون، غير أن نفوذ روسيا في أوروبا سيتراجع يقيناً على المدى الطويل من جراء هذه التحركات الأخيرة. ـ ـ ـ ـ ـ ديفيد روثكوف ـ ـ ـ ــ رئيس تحرير دورية «فوروين بوليسي» يُنشر بترتيب خاص مع «خدمة واشنطن بوست وبلومبيرج نيوز سيرفيس»