احتفل الكثيرون داخل الإمارات وخارجها بفوز مدينة دبي باستضافة معرض إكسبو 2020، الذي تنافست في سبيل تنظيمه مع ثلاث مدن عالمية أخرى، هي إزمير في تركيا، وساوباولو في البرازيل وياكتيرنبرج في روسيا. وبفوز الإمارات بحق استضافة هذا المحفل العالمي، تكون إمارة دبي قد أصبحت واحدة من المدن العالمية التي احتفلت بهذا المهرجان العالمي منذ بدئه عام 1851، وحتى الوقت الحاضر. ويعود تاريخ هذه المعارض إلى معرض لندن عام 1851، وكانت مثل هذه المعارض تُعقد كل ثلاثة أعوام في القارة الأوروبية في القرن التاسع عشر. وفي القرن العشرين، زحفت إلى الولايات المتحدة واليابان والصين. وتُعقد مثل هذه المعارض كل خمسة أعوام، ولم تتوقف إلا خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، ويستمر عرضها في الغالب لمدة ستة أشهر. وتشهد هذه المعارض ظهور مخترعات جديدة، فعلى سبيل المثال، شهد معرض باريس عام 1900، ظهور ماكينات الديزل، وشُيِّد بسببه برج إيفل الشهير. وشهد معرض سان فرانسيسكو عام 1915، الاحتفال بانتهاء العمل في قناة بنما، التي تسمح بالربط بين الساحل الشرقي للولايات المتحدة وساحلها الغربي، والتي سمحت أيضاً باتصال المحيطين الهادي والأطلسي ببعضهما بعضاً. بلغ عدد الدول المشاركة في آخر معرض دولي عُقد في شانغهاي، عام 2010، 246 دولة ومنظمة دولية، وحضره زهاء 73 مليون زائر، وهو أكبر عدد لزوار معرض دولي منذ بدئه وحتى الوقت الحاضر. وتمثل هذه المعارض فرصاً هائلة لخلق الوظائف، ودعم التنمية الاقتصادية. فمثلاً، يُتوقع أن يخلق معرض دبي 2020، 227,000 وظيفة، وسيدرّ على الاقتصاد المحلي بشكل مباشر 40 بليون دولار. ويأتي نجاح دبي في استقطاب هذا الحدث العالمي، بعد نجاح قطر قبل عامين في حقّ استضافة كأس العالم عام 2022. ويمثل هذان الحدثان، الرياضي منهما والتجاري، نجاحاً منقطعاً لدول الخليج العربية، التي بنت مستقبلها على أساس تجاري وحضاري، دون الالتفات لمظاهر القوة الأخرى. فدول الخليج العربية تمثل، تاريخياً، قبلة المسلمين في المسجد الحرام بمكة المكرمة ومسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة، وها هي اليوم تُعيد بناء تاريخ جديد مبني على وئام الحضارات والتقائها، وليس على تنافسها وصِراعها. وقد أكد الإسلام طوال تاريخه على وجوب وجود أشهر حرم يستتب فيها الأمن، ويتبادل فيها الناس السلع والخدمات، حتى في بيئة صحراوية كانت تعاني من عدم استقرار أزلي. في الماضي، كان المحللون السياسيون ينظرون إلى قوة الدولة الصلبة، على أساس أنها هي القاعدة الحقيقية لمستقبلها. ولقد كان عدد السكان، وحجم القوة العسكرية والبحرية والبرية والطيران، وغيرها من الأسلحة التقليدية وغير التقليدية، هما أساس تقييم قوة الدولة. وخلال الحرب الباردة ظهرت دول صغيرة جديدة مثل سنغافورة وهونج كونج، بنَت قوتها على التجارة، وعلى أساس أنها نقطة التقاء البشرية ببعضها ببعض للتعارف والتجارة والسياحة. وها هي دول الخليج العربية، وخاصّة دبي، تعيد تأكيد اسمها على الخريطة العالمية كنقطة التقاء تجارة الشرق بالغرب، ومكان يستطيع التاجر الهندي والصيني فيه بيع منتوجاته وسِلعه للمستهلك الأفريقي، أو الأوروبي، في آنٍ واحد. وبمثل ذلك، جسّدت هذه المدن ثقافة تاريخية تليدة، شهدتها المدن التجارية الأوروبية التي كانت تتاجر مع الإسكندرية وجدّة ومدن الساحل الشامي طيلة قرون، في أمنٍ وأمان، طيلة القرون الوسطى، وحتى القرن السادس عشر منه. وحين تزدهر التجارة والسياحة تنكسر شوكة العسكريين. فحين قررت بعض الدول الأوروبية غزو فلسطين وبقية بلدان المشرق في القرون الوسطى، فيما سُمِّيَ بالحروب الصليبية، رفضت مدينة البندقية وبعض المدن التجارية المشاركة في هذه الحروب. فكيف يحمل التاجر في هذه المدن السلاح في وجه شريكه التجاري في عكّا، أو يافا. وهكذا أثبتت التجارة الإقليمية في البحر المتوسط عداءها لأي عمل عسكري يهدد أركان تلك التجارة أو يقوّضها. وهناك أمثلة تاريخية متعددة مماثلة في حوضي المحيط الهندي وبحر العرب. في الصراع بين منطق التجارة ومنطق الحرب، غالباً ما يتفوّق منطق التجارة، وتصبح الجيوش الجرّارة عبئاً على أصحابها، لابُدّ لهم من تقليصها حتى يواكبوا الحضارة الإنسانية في التعايش السلمي والاحتكاك الحضاري، وتلاقح الثقافات. وكل هذا يُسهم في تثبيت أُطر السِلم. وتلك، عين الحقّ، ومكمنُ كلِّ قوة، وأساس كل ازدهار. وهذه القوة الناعمة لدول الخليج العربية، كانت ولا تزال، أساس تفاعلها مع العوالم المحيطة بها، ومثلما تحرص تلك الدول على إبقاء نقطة تفاعل تجاري مفتوحة بين بعضها بعضاً، فإنّ هذا لا يعمينا عن نقطتين أساسيتين، أولاهما المحافظة على أمن الخليج واستقراره الذي هو همّ لأهل الخليج، كما هو مهم للدول المحيطة به، أو القريبة منه. والنقطة الثانية هي المحافظة على تنمية اقتصادية متوازنة، حتى لا ندخل في دائرة الازدهار الضخم أوالمفاجئ، الذي يعقبه تراجع وانكماش اقتصادي. فالتنمية الاقتصادية المتنامية التي تتحاشى هيجان الأسعار وتضخّمها، يمكن أن تصبح أساساً لاقتصاد مزدهر طويل الأمد، ولكنه لا يتأثر بشكلٍ كبير بالدورات الاقتصادية وارتداداتها على المواطنين والزوّار، وكذا المستثمرين. مبروك لدبي، ومبروك لنا كعرب وخليجيين أن نحتفل بهذا الحدث العالمي المشهود «إكسبو» بعد سنوات عدة من اليوم.