في الثامن والعشرين من شهر فبراير 2011 أشار رئيس الوزراء البريطاني، ديفيد كاميرون، في كلمته أمام مجلس العموم إلى ضرورة إقامة منطقة حظر طيران فوق ليبيا. ومع أن وزير الدفاع الأميركي وقتها، روبرت جيتس، بنفوذه الواسع، عبّر عن تحفظه وعاتب كاميرون على فكرته، فقد أصرّ رئيس الوزراء البريطاني على موقفه المطالب بالتصدي للقذافي في حال انقلب على شعبه، قائلًا في 9 مارس من نفس السنة: «علينا أن نكون مستعدين للقيام بما يجب أن نقوم به إذا ما قرر القذافي ذبح شعبه». والحقيقة أنه بعدما مرور كل هذا الوقت، تشعر بريطانيا بالفخر للدور الذي اضطلعت به، إلى جانب فرنسا، في إقناع مجلس الأمن الدولي بفرض منطقة حظر طيران فوق ليبيا، وذلك رغم التردد الأميركي، والمعارضة الروسية. وأعترف أن بريطانيا وفرنسا بذلتا جهداً كبيراً لتوسيع مفهوم القانون الدولي إلى مداه، حتى يُمنع القذافي وكتائبه من الانتصار في الحرب، وإخضاع الشعب الليبي الذي انتفض من أجل حريته لمزيد من المعاناة والتنكيل. هذا الدعم الناجح للتدخل العسكري في ليبيا هو ما دفع نائب رئيس الوزراء وزعيم حزب الديمقراطيين الليبراليين، نيك كليج، إلى اعتبار ما جرى «تدخلًا ليبرالياً ضمن نطاق القانون». لكن النجاح الذي صاحب العملية العسكرية في ليبيا ومكّن الثوار من دحر قوات القذافي وقتله في نهاية الأمر، يقابل اليوم بحالة من القلق والتوجس التي تنتاب الحكومة الائتلافية في بريطانيا إزاء ما آل إليه الوضع في ليبيا بعد انتصار الثورة. فهناك مخاوف لدى العديد من المراقبين في الغرب من أن ليبيا ربما في طريقها إلى مزيد من الفوضى، ومن أن الأمور قد لا تستتب في أي وقت قريب، لاسيما في ظل إصرار الميليشيات المسلّحة على إهدار فرصة البلد في تحقيق الازدهار ودخول مرحلة من الأمن والاستقرار. فبعض هذه الميلشيا يرغب في إقامة دولة إسلامية تمتد على مساحة المغرب الكبير بأكمله، الأمر الذي سيُدخل البلاد في أتون الصراع والحروب. لذا، واستشعاراً منها للخطر، أعلنت الحكومة البريطانية في 10 يوليو الجاري عن خطة لتدريب ألفي جندي ليبي فوق التراب البريطاني، حتى إذا رجعوا إلى ليبيا يكونون قادرين على تعزيز الاستقرار في طرابلس والتصدي للقوى المنفلتة، لاسيما في المدن الكبرى التي ما زالت خاضعة لسيطرة المليشيات المتشددة. وقد جاءت الخطوة البريطانية بعد مناشدات الحكومة الليبية للعالم بضرورة دعم التجربة الليبية الجديدة في الحكم ومساعدتها على بناء مؤسسات قوية تمكنها من اجتياز مرحلة انتقالية صعبة وتكريس سلطة الدولة التي يبدو أنها ما زالت مهلهلة ولا تقوم بدورها المنشود. وبموجب خطة التدريب سيتلقى الجنود الليبيون تكويناً أساسياً كجنود مشاة، دون الخوض في تدريبات خاصة، وسيخضعون قبل مجيئهم لبريطانيا إلى فحص يختبر لياقتهم الجسدية وسلامتهم الطبية وتوجهاتهم السلوكية. وأشار البيان الصادر عن الحكومة البريطانية بهذا الشأن إلى أن جميع تكاليف التدريب ستدفعها طرابلس. ومع أن موضوع التدريب لم يحظَ بالاهتمام الإعلامي الواسع، فإنه جاء في أعقاب القلق المتنامي لأجهزة الاستخبارات الغربية من الفائض الكبير للسلاح الذي يروج في ليبيا حالياً دون رقيب. ففي يونيو الماضي قُدر عدد صواريخ أرض جو التي اختفت من مستودعات السلاح الليبية بثلاثة آلاف صاروخ، علماً بأنها صواريخ بالغة الخطورة تستطيع إسقاط طائرة ركاب مدنية لدى هبوطها في المطار. ولا شك أن تنظيمات متشددة، مثل «القاعدة» وأفرعها العديدة، تتوق إلى اليوم الذي تضع في أيديها على تلك الصواريخ. وقد وصلت فوضى السلاح في ليبيا درجة دفعت صحيفة بريطانية إلى وصف البلد بأنه «متجر كبير للأسلحة غير القانونية» التي لا يعرف أحد إلى أين تذهب ولا من يشتريها. ومع أن العديد من تلك الأسلحة متقادمة ولم تعد صالحة اليوم، فإن ليبيا بمواردها المالية الكبيرة قادرة على شراء أسلحة حديثة وصواريخ متطورة. والخوف كله أن ينزلق الوضع في ليبيا إلى الفوضى في ظل غياب الدولة وسيطرة المليشيات، وتحولها إلى دولة فاشلة تصدّر الإرهاب إلى الدول المجاورة. وقد رأينا تأثيرات الوضع الليبي على ما يجري في مالي من أحداث، حيث استفادت الجماعات الدينية المتطرفة هناك من أسلحة نظام القذافي وبعض العناصر التي شاركت في كتائبه للسيطرة على شمال البلاد وإعلانها منطقة محررة تتحرك فيها التنظيمات المتطرفة بكل حرية. وبحسب تقديرات جهاز «إم أي 6» البريطاني، يصل عدد الأسلحة التي تم ضبطها، أو التي هُرِّبت إلى مناطق داخل البلاد، بحوالي مليون طن. وليس أدل على متاعب ليبيا مع السلاح والمليشيات وخروجها عن السيطرة، من إقدام رئيس الوزراء الليبي، علي زيدان، على إقالة وزير الدفاع، محمد البرغثي، وذلك بعد مقتل عشرة أشخاص على الأقل في صدامات بين مليشيات تابعة لوزراتي الدفاع والداخلية. وليس معروفاً بعد الوجهة التي يسلكها مستقبل ليبيا، فرغم توفر البلاد على مجلس تشريعي يتمثل في المؤتمر الوطني ودستور جديد تبقى التغطية الإعلامية لجلسات المؤتمر منعدمة، حيث يمنع الصحفيون من تغطية مجرياتها. كما أن البلد بالنسبة للعديد من الزوار الأجانب ما زال خطيراً، ناهيك عن الوضع الاقتصادي الذي لم يتعافَ كلياً. والأهم من ذلك أن الفرص التي تتمتع بها ليبيا والإمكانات المادية المهمة المتأتية من احتياطاتها الكبيرة من الغاز والنفط، قد تتأثر سلباً ولا تتيح لليبيين الاستفادة منها في حال استمر الوضع الأمني المتدهور وعجزت الدولة عن بسط سيطرتها وإخضاع المليشيات والسلاح لسلطتها.