باتت التقارير الإخبارية عن وضعنا الاقتصادي العالمي الراهن مملة إلى حد الإحباط، وإنْ كانت أحياناً تميل إلى السخف. من السويد إلى اليونان نزل الناس إلى الشوارع محتجين على قيام الحكومات بتقليص الإنفاق ومقترحات زيادة الضرائب، وأضحت صور المتاجر والمحال المغلقة في إسبانيا واليونان وأيرلندا شديدة الكآبة. وحين تقلص حكومة ما الإنفاق، فهي عادة ما تطبق ذلك على قواتها المسلحة أيضاً، فعلى سبيل المثال بلغت البحرية الملكية البريطانية أدنى مستوياتها منذ القرن السادس عشر. يجري أوباما- الرئيس الأميركي المعاد انتخابه مؤخراً- مفاوضات مع «الجمهوريين» على كيفية إبعاد أميركا عما يسمى بالهاوية المالية، رغم أنه حتى لو تم التوصل إلى اتفاق، فإنه سيقتصر فقط على تأجيل أزمة الميزانية المقبلة لسنة أو سنتين. وطالب أميركيون في نحو 20 ولاية بالانسحاب من الاتحاد بل تردد أن امرأة في أريزونا دهست زوجها بسيارتها في موقف سيارات أحد المتاجر بسبب أنه لم يصوت ضد أوباما الذي ترى هي أنه لو أعيد انتخابه سيأتي بكارثة ضريبية. ما الذي يجري ؟ وما الذي أوصلنا إلى ذلك رغم كل هذه التظاهرات؟ إن مطالبة الحكومات بمزيد من الإنفاق تبدو لي شديدة الضخامة ولكن مقاومة الناس لضرائب أخرى لا تقل ضخامة. وبذلك وقعت الحكومات من باريس إلى طوكيو في حلقة مفرغة لأن هناك عاملاً آخر يلعب دوراً يتمثل في سوق السندات العالمية الخاضعة لوكالات التصنيف مثل «موديز» و«ستاندرد اندبورز»، فإن لم تقلص الحكومات عجز ميزانياتها سيتم معاقبتها من قبل الأسواق، وستجبر على زيادة أسعار الفائدة، وستضر بالتالي بالاقتصاد (بسوق المساكن والوظائف والاستثمار الرأسمالي). وإذا قلصت الإنفاق، فإنها ستثير الإضرابات والاحتجاجات، بل أحداث الشغب المطولة، يكفي أن ترى المشاهد اليومية خارج مبنى البرلمان اليوناني. كل ذلك يشير إلى أن صلاحيات دولة الضرائب العصرية، ربما تكون قد بلغت حدودها، ولذلك لابد أن تبدأ قصتنا بالمفكرين «ماكس فيبر» و«جي إيه شومبيتر». كان «فيبر»، الذي فكر ملياً - ضمن كتاباته العديدة - في إنشاء الدولة الحديثة في أوروبا الغربية في القرنين السادس عشر والسابع عشر، قد ذهب إلى أن الصفتين المميزتين المحددتين للدولة هما احتكار القوات المسلحة واحتكار الضرائب (لم تعودوا تدفعون الجزية لحاكم أجنبي أو لكنيسة روما). ولكن كل ذلك يستلزم عقداً اجتماعياً، كانت الدولة في رأي «توماس هوبز» تضمن أمن مواطنيها، ولكنها كانت أيضاً في حاجة إلى فرض ضرائب على مواطنيها من أجل تأمين الموارد اللازمة لأداء واجباتها. ولكن إلى أي مدى تستطيع الدولة استخراج عائدات من مواطنيها، بينما يوجد في العديد من الدول برلمان أو مجلس يضم نواباً عن الشعب يظنون أنهم يتعرضون للسرقة؟ ألم تكن الاضطرابات المدنية واسعة النطاق تهديداً واضحاً؟ كان أحد الأسباب وراء ما سمي بالأزمة العامة في القرن السابع شر هو فرض ضرائب تفوق طاقة المواطنين. وكذلك كان الحال في الثورة الأميركية وأيضاً في الثورة الفرنسية وأيضاً الأزمة الأوروبية قبل عام 1914، حين تسبب الإنفاق على التسليح والإنفاق الاجتماعي الجديد (الرعاية الصحية والإسكان والتعليم) في فرض ضرائب حكومية ثقيلة. كثفت الحرب العالمية الأولى من هذه الأزمة، وأتت بشومبيتر وبكتاباته العبقرية عن «أزمة دولة الضرائب». ماذا كان الحال لو كانت دولة الضرائب بلغت حدودها؟ وماذا كان الحال لو أن النهج القديم في الاقتراض من الأجانب والتعهد بالتسديد لاحقاً قد تجاوز حدوده؟ وما الحال لو أنك توشك على الإفلاس أو وقعت بالفعل من فوق أعلى الهاوية؟ آمل أن يفهم القراء قصدي، أجابت الحكومات الغربية في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي على سؤال «شومبيتر» بأن قلّصت الإنفاق في المجال العسكري والاجتماعي متسببة في البطالة والاضطرابات ونشوء أحزاب التطرف اليميني واليساري، يا له من حل عظيم؟ ثم لاحت بشائر الحرب العالمية الثانية التي دفعت تكاليفها عن طريق مزيد من الضرائب الشاملة ثم بقدرة المواطنين الأميركيين آنذاك على شراء مليارات من سندات الحرب. منذ عام 1945 تعاني جميع الأنظمة من معضلة «شومبيتر»، كان هناك أحد حلين اثنين لتلك المعضلة وربما الاثنان معاً على التوالي الأول يتمثل في نمو سنوي أعلى يعد الحل الأفضل بسبب أنه يجعل الناس أكثر ثراءً ويأتي بعائدات أعلى للدولة. والثاني يتمثل في تعويم السندات ذات الفائدة، وهو حل يسهل جداً على الخزانة تطبيقه، ولكنه شديد الإغراء لأنه عبارة عن الاقتراض على حساب المستقبل وعلى حساب مصالح الأجيال القادمة. في الولايات المتحدة يبكي الأميركيون على حظوظ أحفادهم ولكنهم بكوا لعقود من زيادة الضرائب أو من تقليص استحقاقاتهم. إنه وضع في الحقيقة شديد التضارب. غير أن أحوال الأميركيين وإن كان معظمهم لن يدرك أبداً ذلك بسبب أنهم لا يقرأون عما يجري خارج بلادهم، أفضل كثيراً من عشرات الملايين من الأوروبيين. هناك موضوع بالغ الكآبة نشر مؤخراً في صحيفة «وول ستريت جورنال» عنوانه «لليونانيين، الأزمة تقلب جيلاً من التقدم»، ذلك أن كل التقدم الاقتصادي لأربعة عقود انقلب إلى بطالة نسبتها 25 في المئة وانتشار اليأس. وعادت معدلات القوة الشرائية إلى ما كانت عليه في سبعينيات القرن الماضي حين عاد أصحاب المهن العاطلون من الطبقة المتوسطة إلى منازل الفقراء أسلافهم للعناية بماعز الأسرة وحصاد أشجار الزيتون. غير أن الناس شمال جبال الألب لا يكترثون بما يجري في اليونان أو البرتغال أو جنوب إيطاليا. إذ أن لديهم ما يخصهم من مشاكل، ولا يستطيع برلمان أثينا أن يقلص المزيد من الإنفاق الاجتماعي حسبما يرغب المصرفيون، دون حرب أهلية، لماذا؟ لأن أعضاء البرلمان لا يتمكنون حتى من عبور ميدان البرلمان؟ ولا يستطيعون خفض العملة النقدية لأن اليونان عضو في الاتحاد الأوروبي، ولا يستطيعون زيادة الإنفاق، لأن رد فعل أسواق السندات سيكون سلبياً. يبدو أن احتمالات النمو ضعيفة، وتترنح دولة الضرائب العصرية نحو أزمة وكل واحد يلوم الغير، الكتالونيون يلومون مدريد والاسكتلنديون يلومون لندن و«حزب الشاي» يلوم واشنطن، والجميع يلوم الألمان. ورغم أني لم أراجع الوضع المالي المحلي حتى الآن، ولكن ليتني كنت مقيماً الآن في جزر ساموا. في الوقت الراهن لا أرى مخرجاً مما نحن فيه، بالتأكيد هناك بعض الدول أكثر اتزاناً واستعداداً من دول أخرى كما هو حال بعض الولايات الأميركية، «فيرمونت» مثلاً أفضل حالاً من كاليفورنيا أو ميتشجن، ولكن المسألة مسألة فروق في الدرجة وليست حالة شاملة. هناك هدف في كافة الدول تقريباً نحو بلوغ حد للإنفاق أو سقف لضرائب أعلى، أو حد أدنى للخدمات الاجتماعية، أو حد أدنى لميزانية الدفاع، فالتقليص الكبير يُعد نوعاً من الحماقة، والإنفاق الكبير حماقة أيضاً، فماذا بوسع الحكومات أن تفعل؟ بول كنيدي أستاذ التاريخ بجامعة «يل» الأميركية ينشر بترتيب مع خدمة «تريبيون ميديا سيرفس"