عام مضى وأكثر على اندلاع "الربيع العربي" الذي أشعل ثورات في عدد من الدول العربية، وإلى وقتنا هذا لم تظهر بارقة ُ أملٍ أو شعاع تغيير حقيقي في تلك الدول، فقط اختلف سيناريو النهاية للأنظمة التي كانت تحكمُ هذه الدول ولم تتغير أحوالها إن لم تكن قد ساءت أكثر وأكثر عما قبل. فرح المتظاهرون كالأطفال وهللوا لهذه الثورات، ولم يدركوا حينها أنها كانت لعبة كبيرة تم إعدادها وتنفيذها بدقة متناهية، كان المقصود منها إعادة هذه الدول إلى الوراء سنوات وسنوات، فمن يتابع ما حدث يدرك للوهلة الأولى أن شعوب هذه الدول كسرت القيد وحطمت جدار الصمت، وانطلقت ترفرف في سماوات الحرية والديمقراطية واللحاق بركب الدول المتقدمة، وما إلى ذلك من الخيالات الساذجة التي اشتهرنا بها كعرب من أحلام اليقظة والضحك على النفس كنوع من أنواع مداواة الجروح أو الهروب من الواقع الأليم. غيرت الثورات الزعماء والقادة، لكنها لم تُغير الأنظمة الفاسدة التي تحكمها، فبالله عليكم أي عاقل يسمي هذه الفوضى بثورات حقيقية؟ الأنظمة التي كانت تحكم هذه البلدان ما زالت هي التي تسير الأمور فيها مع تغيير في الملامح والوجوه. أخطأت هذه الشعوب حين ظنت أنها إن تخلصت من هذه الرموز التي كانت سبب فقرها وتخلفها فقد انتهت معاناتها للأبد، وستصبح دولاً متقدمة يعمُ ربوعها الرخاء، ولم تكن تعلم بأن الثورة الحقيقية تبدأ من القاع وليس من القمة، أي لابد من ثورةٍ صادقةٍ في أخلاقيات وسلوكيات المجتمع، أخطأوا حين ظنوا أن الثورة هي تجمعٌ للملايين في الميادين أو تخريب للممتلكات العامة أو معاداة للأشقاء باسم الكرامة الزائفة، حتى أصبحت ثورتهم معارك دموية مع جنود من أبناء جلدتهم يشتكون من نفس همومهم ويتجرعون مرارة العيش من ذات الكأس التي يشربون منها. إن ما تحتاجه هذه الدول في هذا الوقت العصيب هو مزيد من حب الوطن والعمل الشاق المتواصل، باختصار تحتاج إلى ثورة حقيقية لمبادئها التي اهتزت وقيمها التي تلوثت وسلوكها الذي صار تقليداً أعمى، بعد أن أصبحت فئات كثيرة منها تغوص في وحل الجهل والخرافة وأصبحت تتنافس في كراهية واحتقار نفسها أمام الآخرين. إن السبيل الوحيد للحاق بركب الدول المتقدمة هو البناء وبذل الجهد في العمل الجاد المثمر، لبناء مستقبل مشرف وحاضر مشرق حتى يكون لكم مكان لائق أمام دول العالم، وصدق من قال: "لم تقطف ثمار الحرية... إن لم تزرع وتخبز لقمة عيشك بيدك". فمن قال إن الديمقراطية هي الفوضى وعدم المسؤولية؟ وإن حب الوطن حرق الممتلكات العامة؟ وإن حل مشاكلنا يبدأ بالاعتصامات وتعطيل وسائل المواصلات والعصيان المدني؟ إن الأنظمة السابقة تتحمل جزءاً كبيراً مما صارت إليه مبادئ هذه الشعوب من تفضيل المصلحة الشخصية على مصلحة الوطن، فلا أحد ينكر أن هذه الأنظمة عاشت في كواكب أخرى بعيدة عن شعوبها، وحللت لأنفسها التنعم بخيرات بلادها وشعوبها محرومة من أبسط حقوق الإنسان. لكن بعد أن ذهبت تلك الأنظمة بلا رجعة، فإن المطلوب من هذه الشعوب أن تفكر ولو قليلاً في مصيرها، وأن تقرر ما هو صالح ومناسب لها بدلاً من أن تهوي كالفراشة وراء أي ضوء ساطع فتلتهمها النيران بلهيبها، وبدلاً من أن تصعد درجات القمة فتهوي إلى دركات القاع. ولعل أهم نقطة لبدء عملية النهوض والنهضة هي حسن اختيار الربان الذي سيقود سفينة البلاد للوصول بها إلى بر الأمان، وحتى لا تضيع دماء الشهداء عبثاً، ومن أجل أن تلتئم الجروح التي أصابت البلاد وزادت من أوجاع المواطن المسكين الذي تتقاذفه الأمواج والتيارات المتصارعة لخدمة أجندات خاصة، فبالله عليكم وحدوا صفوفكم ووجهوا قلوبكم نحو حب الوطن فقط، فالتاريخ لا يجامل ولا يرحم أحداً، وبدلاً من أن تكون ثورتكم نحو النهضة والحرية والعدالة تتحول لا قدر الله إلى فوضى وتمزق وندم، وتكون النتيجة للثورات العربية في التاريخ "لم ينجح أحد"!