كان أيزنهاور آخر رئيس أميركي يتخذ موقفاً حازماً وواضحاً ضد إسرائيل. ففي عام 1957 قال أيزنهاور هذه الكلمات الواضحة والعميقة الدلالة: هل يمكن السماح لدولة هاجمت واحتلت أراضي دولة أخرى -على الرغم من معارضة الأمم المتحدة- بفرض شروط مقابل انسحابها؟ إذا ما كان الأمر كذلك، فإننا نكون قد أدرنا عقارب ساعة النظام الدولي للوراء". والسؤال الذي يخطر للمرء عندما يقرأ مثل هذه الكلمات هو: كيف كان أيزنهاور سينظر للإهانة التي عانتها الولايات المتحدة على أيدي إسرائيل في السنوات الأخيرة؟ وكيف كان سيرى اليمين الجمهوري الذي لا يزال، رغم انتهاء الحرب الباردة منذ سنوات طويلة، يعتبر إسرائيل عملاقاً قامت حاملة طائرات أميركية بحمله بأمان ووضعه في شرق المتوسط، كما يعتبر الفلسطينيين إما شعباً مختلقاً يعيش في نفس المنطقة، أو يعتبرهم إرهابيين؟ كان أيزنهاور، رجل دولة بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وليس مجرد سياسي يستنزف نظرية سياسية لآخر قطرة فيها. كان رجلاً واقعياً، وباعتباره قائداً سابقاً للقوات المسلحة الأميركية، وقائداً عسكرياً عالمياً، فقد تحدث بصراحة عن مخاطر "المجمع العسكري الصناعي". ولو كان أيزنهاور على قيد الحياة اليوم، لتحدث بصراحة كذلك عن مخاطر الطريقة التي أخضعت بها الولايات المتحدة مصالحها السياسية لإسرائيل، وكيف أن إسرائيل تحولت لتصبح عدواً لدوداً لنفسها، ولكان قد أصر على أن أميركا وإسرائيل سوف تكسبان إذا ما ابتعدتا قليلاً عن بعضهما بعضاً. أنا بالطبع أدرك أن إسرائيل، رغم أن عدد سكانها سبعة ملايين فقط، لها أهمية استراتيجية كبرى: فهي قوة نووية، تمتلك رابع أقوى جيش في العالم، كما أن اقتصادها قوي للغاية، وقطاع تقنية المعلومات لديها متفوق. وهي بالإضافة لذلك كله، لاعب ثابت وحازم في الحرب على الإرهاب العالمي. لكن هناك أموراً أخرى ينبغي أخذها في الاعتبار منها: أن مؤسسيها الصهاينة افترضوا أنها ستكون دولة يهودية وديمقراطية في الآن ذاته. وربما قبل انقضاء وقت طويل من الآن، سوف يتعين على الإسرائيليين اختيار واحد من الاثنين. والغرب يرى أن هناك ديمقراطية في إسرائيل على اعتبار أن القانون هناك يسمح للإسرائيليين والعرب على حد سواء بالتصويت في الانتخابات والتحرك بحرية، مع بعض القيود على العرب. وفي الضفة الغربية وبعد عقود من الاحتلال القاسي الذي لا يرحم، نرى أنه ليس للفلسطينيين سوى سلطة ضئيلة في تقرير الأمور، وليس أمامهم من خيار سوى مراقبة المستوطنات الجديدة وهي تبنى واحدة وراء الأخرى وتتمدد، فوق أراضيهم المحتلة، بدعم مالي ضخم من قبل الحكومة الإسرائيلية. ومع بناء هذه المستوطنات المتزايدة على الدوام كان لابد لعدد المستوطنين اليهود في الضفة الغربية أن يزدادوا بوتيرة أعلى من الوتيرة التي يزدادون بها في المناطق الواقعة إلى الغرب من إسرائيل. ومع هذه الزيادة فإن فكرة إقامة دولة فلسطينية على أراضي الضفة الغربية، تنحرف تدريجياً عن مسارها لتبدو على نحو متزايد كفكرة غير واقعية. ونظراً لأني رجل متقدم في السن، فإنني لا زلت أذكر أياماً كان عدد المستوطنين فيها محدوداً في الضفة الغربية سواء من ناحية العدد أو التأثير. ويشار أن أفيجدور ليبرمان وزير خارجية إسرائيل، وهو نفسه مستوطن من سكان الضفة الغربية- قد أوضح بجلاء أن ليس لديه اهتمام بمباحثات السلام، كما قال لـ"ويليام هيج" وزير خارجية بريطانيا، إن إسرائيل لن تشجع إمكانية الدخول في "حوار استراتيجي" مع بلاده. وليبرمان رجل مغرم بخطط نقل السكان- ويمكن للمرء أن يخمن بسهولة من هي الدولة التي ستستفيد من ذلك أكثر من غيرها، كما أنه لا يتوانى من آن لآخر عن إثارة فكرة إلزام سكان إسرائيل من العرب بأداء قسم الولاء. في عام 2010 قام الرئيس باراك أوباما بجهد شخصي لإعادة تنشيط مباحثات السلام في الشرق الأوسط، وفقاً للخطوط المعروفة وذلك أثناء حفل في حديقة الورد بالبيت الأبيض. لكن الذي حدث بعد ذلك وتحديداً في الثامن من سبتمبر أن أوباما نفسه أعلن وهو يشعر بقدر كبير من الحرج، أنه لن يحاول بعد ذلك إقناع إسرائيل بتجميد برامج بناء المستوطنات، كشرط مسبق لإعادة إطلاق مباحثات السلام. وفي خطابه الشهير بالقاهرة عام 2009، قدم أوباما تعهداً قوياً بأن يكون أكثر إنصافاً فيما يتعلق بالتعامل مع موضوع الحرب والسلام مع العرب من سلفه بوش الابن. لكن ذلك لم يحدث لأن أنصار إسرائيل الأقوياء في الولايات المتحدة ما زالوا ينظرون إلى اليهود، على أنهم كانوا ضحايا للهولوكوست النازي الذي وقع في أربعينيات القرن الماضي. والملفت أنه عندما يكون نتنياهو في واشنطن بالمصادفة -وهو أمر يحدث كثيراً- فإنه يحصل على دعم وتأييد وتصفيق من الكونجرس، أكثر مما يحصل رئيس الولايات المتحدة نفسه. وهذا بالطبع ليس شيئاً صائباً... بل أنه عار بمعنى الكلمة. ليس لدي شك في أن أوباما، ومن خلال ما نعرفه عنه من سجايا، كان جاداً فيما قاله للجمهور الذي كان يستمع إلى خطابه في القاهرة. فالأمر المؤكد أن كبار مستشاريه، وعلى رأسهم وزيرة الخارجية، قد شرحوا له مدى أهمية قيام أميركا بتبني مقاربة جديدة في المنطقة، وهي أيضاً نفس النصيحة التي قدمها له الجنرالات العسكريون الذين لا شك قد قالوا له إن الجنود الأميركيين في أفغانستان سوف يستفيدون من مثل تلك المقاربة الجديدة. وإذا ما افترضنا أن أوباما سوف يبقى في البيت الأبيض لولاية ثانية، فإن الأغلبية العظمى من أعضاء الأمم المتحدة سوف يأملون في هذه الحالة أن يتمكن من وضع السفينة الأميركية في مسار جديد.