كنا في الستينيات من القرن الماضي نتعامل مع الراديو "الترانزستور" الصغير بشغف كبير، ونحافظ على الجهاز إلى درجة أننا نغلقه نهاراً حتى نوفر قوة البطارية. وفي الليل نسمع الخطابات المهمة لجمال عبدالناصر وحفلات أم كلثوم من "صوت العرب"، كما كنا نسمع بعض الإذاعات القريبة. وفي السبعينيات ظهرت الإذاعة والتلفزيون، فأحدثتا "ثورة" في الأوساط الاجتماعية! وتدريجيّاً خلت السيارات من الإسطوانات الملونة والمسجلات المعلقة لتحتل الإذاعة مكانهما مع شريط التسجيل الصغير وبعده الأقراص المدمجة. وفي الليل كان يجمعنا التلفزيون في سهرات عائلية تمتد إلى منتصف الليل، بحيث قضى هذا الجهاز على سمعة المجلس وهيبته تدريجيّاً. ولم يكن كل ناتج هذين الجهازين ترفيهيّاً فحسب، بل لقد ساهم الجهازان في زيادة وعي الناس وفي تزويدهم بالأخبار والمنوعات العالمية، إضافة إلى المباريات الرياضية المحلية والعالمية والمصارعة وغيرها من المواد. كما ساهم الجهازان في تعريف المُشاهد والمستمع بما يدور في فكر الدول، وما تنفذه من مشاريع وما تمارسه من نشاطات في المجال الدبلوماسي الخارجي، إضافة إلى برامج التوجيه والوعظ. كما ساهما في تنمية الذائقة الفنية، واجتذبا المبدعين في مجال الكتابة البرامجية والتأليف الدرامي الإذاعي والتلفزيوني والتقديم والتمثيل والإخراج. وظهر جيل من الإعلاميين -مازلنا نتذكرهم- ممن أسعدونا وأدخلوا البهجة إلى قلوبنا. ومع ظهور الفضائيات في أوائل التسعينيات بدأت مرحلة جديدة من البث العابر للحدود، فسقطت الرقابة الصارمة، وتعدّلت الأمزجة المتشددة أو تسامحت مع معطيات البث الجديد. بل إن المحطات المحلية بدأت "تقلد" تلك الخارجية التي ظهرت في أوروبا ثم انتقلت إلى دبي لاعتبارات عديدة منها حرية التعبير وشكل الإعداد والتقديم، ما ساهم في توسيع هامش الحرية وتقديم المادة بصورة مبهجة وغير صارمة. وخلال الفترة ذاتها ظهر الهاتف النقال، وسهّل أمور الناس في شتى مناحي الحياة، مع أن البعض اعتبره وسيلة تسلية؛ على رغم أنه وسيلة اتصال، فهدر هذا البعض الأموال والأوقات في تبادل معلومات و"نكات" قد لا تكون ذات أهمية. والجديد -وربما غير الأخير- هو "التويتر" و"الفيسبوك"، حيث دخلت لغتنا أفعال جديدة -ربما ناقشتها مراكز البحوث العربية- مثل "التوترة" و"الفسبكة" وغيرهما. وصار هذا الملعب فضاءً قضى على رقابة النشر أو صلاحيات رئيس التحرير أو مدير الإذاعة؛ بحيث أصبح لكل إنسان الحق في المشاركة في الحوار دون حواجز، بل بنقرة على الجهاز النقال أو الثابت، ليكون مطلعاً على ما يجري في العالم، بل وما يجري حوله مما لا تقترب منه وسائل الإعلام الرسمية. وهكذا أصبح الإنسان اتصاليّاً مؤكداً النظرية الإعلامية القديمة التي تقول: الإنسان كائن اتصالي، حيث يمكنه أن يعيش وينمو فيزيائيّاً دون اتصال، ولكنه لن يكون إنساناً كاملاً بغير الاتصال. وكما تم استخدام الهاتف بصورة غير إيجابية في بعض الحالات، نلاحظ أيضاً سوء استخدام هذه الوسائل -خصوصاً مع وجود المتواصلين المجهولين (مثل الناب الأزرق، فتى الليل، الساهرة، شبح الفريج، الدانة المكنونة) وغيرها من الألقاب والأسماء المستعارة التي لا تدل على صاحبها. وهذه الميزة أتاحت الفرصة لبعض العابثين أن "يتطفلوا" على وسائل التواصل الاجتماعي ويستخدموا كلمات خارجة على الذوق والأخلاق، أو تسفيه آراء المتواصلين الذين يحاولون إنارة الطريق، دونما مسؤولية ولربما بروح صبيانية أو جهل، فقط لجذب الانتباه، دون أن يشاركوا بإيجابية في الحوار الاجتماعي الذي يهدف إلى خدمة الصالح العام. ولعل أغرب ما تعرّضت له خلال الأسبوع الماضي عندما شاركت في "التويتر" بموضوع عن حرية التعبير، التي قرنتها بقيم الخير والحق والعدل. فما كان من متصل "مغرد" مجهول إلا أن رد عليَّ: "ومن يحدد الخير والحق والعدل، الشيطان يمكن أن يدخل المعادلة". رددت عليه بكل أدب: "هذا رأيك.. ولي رأيي"! رد عليّ بلا مسؤولية: "أكيد هذا رأيي عيل رأي خالي"؟! تصوروا حجم الفهم لدى البعض. لذلك يفضّل الإنسان عدم الرد على هذا البعض الذي قد لا يفهم القصد، بل ولا يفهم الموضوع ويخلط الأمور ليس بقصد التغريد الإيجابي، بل لتوتير الأجواء وبث العصبية في نفوس "المغردين". إن إشكالية التخفي وراء الأسماء المستعارة من الأمور التي تعكر صفو الحوار الاجتماعي، تماماً كما كان يحدث في عالم الصحافة، حيث قد يتسلم رئيس التحرير رسائل مجهولة وعابثة يريد صاحبها نشرها في الجريدة. وأنا أعتقد أن من لا يريد الإفصاح عن هويته فلا إلزام عليه المشاركة في هذا الفضاء، لأن المشاركة واضحة ولا تستوجب هذا "التخفي"، إلا إذا كانت وراء التخفي أسباب، وحتماً لن تكون هذه الأسباب إيجابية، وإلا فما يُضير الإنسان أن يعبّر عن رأيه إن كان لا يتجاوز حدود الأدب واللياقة ولا يقترب من تهمة "قذف" الآخرين؟!