مناسبات عدة، عابرة جرى فيها الحديث عن المناخ الاجتماعي والثقافي في دولة الإمارات، وعن بنية إنسانية تسامحية وبنائية، تعتقد البناء كما تعتقد التسامح، شيدها مؤسس الدولة المغفور له بإذن الله تعالى الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان طيب الله ثراه، إضافة إلى البنية المادية التي يتمتع بها المواطنون والمقيمون على حد سواء، في الإمارات التي غدت ماركة مميزة ليس في العالم العربي فقط، يطمح إليها العديدون، ويقصدها الكثيرون، ولكن ماركة عالمية تنافسية بامتياز، تجمع بين الأصالة والمعاصرة، بين التراث والحداثة. ورغم أن حجم الإنجازات واضح كل الوضوح، يسر المحب ويغيظ الكاره، إلا أنه أوضح وأبرز لمن عرف الفرق، ورحل في سفينة الزمان، فشاهد قيام الاتحاد وتابع مراحل نشأة الدولة وتطورها، لكنه إلى حد كبير غير مُدركٍ لكثيرين من أبناء الوطن الذين فتحوا أعينهم على كيان راسخ يتمتع بنهضة غير مسبوقة في المنطقة العربية. الرصيد العظيم الذي نحن بصدد الحديث عنه، لا يقتصر على الماديات من بنية تحتية قوية، ومؤسسات راسخة، وخدمات راقية... بل يتعدى ذلك إلى هذا النوع من النظام الاجتماعي الذي تزخرُ به دولة الإمارات، حيث رعاية التنوع داخل الوحدة والاتساع لمئات الجنسيات والجاليات التي تحميها جميعاً ثقافة وسلوك التسامح وفعالية دولة القانون والرعاية... تنوع ثقافي وحضاري فريد، وإن كانت رفاهية الحياة واحتياجات الإنسان الأساسية من الأولويات التي حرص عليها الآباء المؤسسون، وسارت على نهجها قيادتنا الرشيدة، فإن ذلك لم يكن لينجز، لولا الالتزام غير المحدود بالمسؤولية تجاه المواطنين. ويحضرني في هذا السياق ما ذكره المغفور له الشيخ زايد، عن حديث جرى بينه وبين إعلامي غربي عندما أشار إلى الشيخ زايد رحمه الله بأن الدولة لم تترك شيئاً إلا ووفرته للمواطن وأن ذلك قد يكون مدعاة للامبالاة وعدم تحمل المسؤولية. فجاءت إجابة الشيخ زايد رحمه الله بسيطة في عباراتها عميقة في معناها ومغزاها، حيث ذكر بأن مواطنيه هم بمثابة أبنائه، وسأل محدثه: إذا كان عندك أبناء ألا تطعمهم، ألا تكسيهم، ألا تأويهم في سكن! هذه الرؤية الرحيمة والعلاقة التعاقدية من القائد للمواطنين ومسؤولية الأب تجاه أبنائه، هي سر هذا التلاحم الفريد بين الحاكم وشعبه. وفي تصوري فإن المبادئ والقيم الإنسانية العظيمة التي أسسها الشيخ زايد ورسخها من بعده صاحب السمو الشيخ خليفة بن زايد آل نهيان حفظه الله، هي من أعظم الإنجازات التي حققتها الدولة -وهي كثيرة جداً- خلال الفترة الماضية، وجديرة كذلك بأن توثق لأبنائها المواطنين وللمقيمين على هذه الأرض، بل تعريف الآخرين بها كنموذج عربي متألقٍ في إنسانيته. قيم التسامح والعدالة والرحمة والعون ونجدة المحتاج... هي اللآلئ التي يجب أن نفتخر بها نحن الإماراتيون، ويجب أن تكون الآثار والنتائج التي حققتها هذه القيم مدعاة لنا للاستمرار فيها والحرص عليها. لا نحتاج في هذا السياق إلى ذكر أرقام أو إحصائيات، فكل قيمة لها عشرات بل مئات الشواهد التي نعيشها في كل لحظة. هذا التنوع من الجنسيات والثقافات واللغات والأعراق التي تتصارع في مواطنها وتتعايش في الإمارات. هذه البيئة التي مكنتهم ومكنتنا من العمل نحو أهدافٍ نبيلة وصرف جهودنا وطاقاتنا للبناء، والنتيجة لا انشقاق ولا صراع. واجبنا نحن المواطنين المحافظة على هذا الرصيد العظيم من الإنجازات الحضارية والمادية. وإذا كان البعض من المغامرين والمزايدين ليس لديهم ما يخسرونه، فإنه لدينا الكثير الذي يستدعي بذل كل ما نملك للمحافظة عليه، وصيانته، والذود عنه. ولن يكون ذلك إلا بتعزيز الانتماء للوطن، والولاء لقيادته، نابذين كل ما سواهما من ولاءات أو انتماءات فكرية أو مذهبية.. إلخ. وفضلاً عن أن مجتمعنا المتمسك بهويته، رغم أنه واحد من أكثر المجتمعات تعددية وتنوعاً في العالم، حيث هناك ما يقرب من 180 جنسية تسكنه وتقيم فيه ومئات المذاهب والطوائف والأديان، يحتاج انتباهاً وضبطاً حكيمين يعتمدان الحرية المسؤولة والانتماء الوطني الواضح من أهله وأبنائه، وهكذا هي عبقرية الحكم الرشيد والنمط الاجتماعي التسامحي الذي رعاه الآباء المؤسسون، أي النظرية التي تصدرها الإمارات للجميع، لعالم صار التعصب شعاره، وهناك العديد من الأمثلة التي تؤكد ما أشرنا إليه وتحمل دلالات أعمق أذكر منها: موقف الشيخ زايد رحمه الله من بناء الكنيسة في مدينة العين منذ أكثر من خمسين عاماً، وما فيه من دلالة عظيمة على عمق التسامح وخصوصية هذا الوطن المنفتح، وهو موقف أبعد من مجرد بناء كنيسة. وحضور الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم طيب الله ثراه لاحتفالات العديد من الجاليات المسلمة وغيرها منذ خمسينيات القرن الماضي، فيها رسالة قوية على عمق ثقافة التسامح التي يجب أن نرسخها في نفوس أبنائنا. إن توثيق ونشر هذه القصص في الداخل والخارج أمر في غاية الأهمية، باعتبارها أمثلة قوية على نضج ثقافة التعايش والتسامح الضاربة في أعماق تاريخ البلد.