محاولة فهم المشهد الفوضوي السائد في باكستان في الوقت الراهن، تشبه في بعض الأحيان محاولة من يُحدِّق في لعبة المنظار البلوري السحري المكونة من مرايا وقطع صغيرة متناثرة تتغير ألوانها وتتبدل بلوراتها بتغيير زاوية سقوط الضوء عليها، ثم يحاول بعد ذلك وصف ما رآه على وجه الدقة. في وقت سابق من هذا الشهر، أدانت المحكمة العليا الباكستانية التي تزداد نفوذاً على الدوام، رئيس الوزراء يوسف رضا جيلاني بتهمة احتقار المحكمة، لأنه رفض إعادة فتح التحقيق في قضية فساد معلقة منذ مدة طويلة، كانت قد رُفعت ضد رئيس البلاد آصف على زرداري. قبل ذلك بأسابيع قليلة عمت الشائعات في باكستان عن احتمال وقوع انقلاب ضد الرئيس، ورئيس الوزراء وتبعتها أقاويل عن انقلاب قضائي وشيك، بقيادة رئيس قضاة المحكمة العليا" افتخار شودري". ومما فاقم من أجواء عدم اليقين تلك التكهنات التي سادت بشأن احتمال عقد انتخابات مبكرة هذا العام، وذلك في مواجهة لغط مقابل مؤداه أن الانتخابات لن تعقد قبل عام 2013. وهناك بالإضافة لذلك 40 قناة تلفزيونية عاملة تنشط على مدار 24 ساعة طيلة الأسبوع تعمل في مجال إذكاء نار التكهنات والشائعات، وليس في مقدور المرء سوى التعاطف مع سفير الولايات المتحدة في إسلام آباد أو رئيس محطة الـ"سي.آي.إيه" هناك لما يبذلانه من جهد في كتابة تقارير للوطن، لا تصمد تحليلاتها ومعلوماتها سوى لفترة تقل عن الثمانية وأربعين ساعة التالية لكتابة هذه التقارير. والخيال يمكن أن يجمح وسط كل هذا الكم من اللايقينيات وعدم الاستقرار. فباكستان تمتلك عشرات من القنابل النووية، كما أثبت استطلاع رأي أجراه معهد جالوب عام 2009 في تلك الدولة أن 60 في المئة من سكانها يعتقدون أن الولايات المتحدة تمثل تهديداً لبلادهم يفوق التهديد الذي يمثله خصمها التقليدي الهند. وفوق ذلك تؤمن الأغلبية الساحقة من الباكستانيين أن إسرائيل تقف وراء هجمات الحادي عشر من سبتمبر. المشكلة أن الولايات المتحدة ترتبط بعلاقات لصيقة مع باكستان لا يبدو أنها قادرة على الفكاك منها. وأسوأ كابوس ينتاب واشنطن هو أن يتبلور ذلك المزيج المدمر من باكستان نووية تهيمن عليها "طالبان" ويقودها رجال دين متطرفون ومتلهفون على تأجيج النيران السياسية في الوطن. وعلى الرغم من أن باكستان "المهيمن عليها من قبل طالبان" تعد احتمالاً غير وراد ربما، إلا أن ذلك يمكن أن يتغير في جزء من الثانية، إذا حدث وأن تدخلت قوى أجنبية في شؤون ثاني أكبر دولة إسلامية في العالم من حيث عدد السكان. يقول "بروس ريدل"، الذي عمل مستشاراً لأربعة رؤساء أميركيين:"مستقبل الجهاد العالمي سيتقرر في باكستان أكثر من أي مكان آخر في العالم". وهذا الرأي يجعل من سعي واشنطن للاستقرار السياسي في باكستان أمراً حتمياً. وأي وجهة نظر متشائمة بشأن باكستان وهي للأسف النظرة المنتشرة على نطاق واسع في الغرب تختلف اختلافاً بيناً عن وجهة نظر المحللين الباكستانيين الذين يشيرون إلى سيناريوهات أكثر تفاؤلًا ويستدلون في ذلك بستة تطورات تبعث على الشعور بالأمل هي: أولاً: على الرغم من ضعف حكومة الائتلاف الحاكمة، لم يقع انقلاب ضدها وهو ما يرجع إلى الميل المتزايد لدى العسكريين لعدم التدخل في الشؤون اليومية على الساحة السياسية. ثانياً: تصاعد نفوذ وتأثير المؤسسة القضائية الباكستانية وظهورها قوة قادرة على إقالة الرؤساء والمستبدين العسكريين، ومحاكمة رؤساء الوزراء الذين لا يحترمونها ورد المظالم التي يتعرض لها الفقراء والمهمشون بحيث صارت المحكمة العليا اليوم توفر - كما يقول شوجا نواز من" مجلس الأطلسي" - فرصة كبيرة للباكستانيين للتعبير عن صوتهم. ثالثاً: ظهور تيار ناشئ يميل للاعتدال في الفضاء الديني الباكستاني وتزايد الجهود التي يبذلها رجال الدين المسلمون لتحدي نفوذ "القاعدة" و"طالبان" وتعزيز الرؤية الوسطية المعتدلة للدين، وإصدار فتاوى بأن العمليات الانتحارية محرمة إسلامياً. رابعاً: إن الجنرالات الباكستانيين الذين ظل نفوذهم يتزايد على امتداد عقود بسبب ترويجهم لوجود تهديد من الهند باتوا يدركون الآن أن التهديد الأكبر هو ذلك الذي يأتي من الإرهاب الداخلي ومن الحركة الانفصالية العنفية في إقليم بلوشستان. خامساً: تكاثر المنافذ الإعلامية التقليدية بالإضافة لانفجار أدوات الميديا الاجتماعية مثل "فيسبوك" يلعبان دوراً متنامياً في صياغة شكل المشهد العام في باكستان في الوقت الراهن والمزيد من انخراط المواطنين في الشأن السياسي وتحديهم للمؤسسات الحكومية القائمة بما فيها المؤسسة العسكرية. سادساً وأخيراً: دخول نجم الكريكيت السابق عمران خان المشهد السياسي يأتي تجاوباً لشوق شعبي عارم وحقيقي للتغيير، ويمكن أن يغير النظام السياسي الراكد القائم على تنافس حزبين رئيسيين فقط. ولكن "مسعود يوسف" الصحفي الباكستاني يقول إن الأمل يتعلق في المقام الأول بـ"الحكم الرشيد" أي بقدرة الحكومة المركزية توفير المياه، وتأمين الكهرباء، وتطوير المجتمع المدني بحيث لا يكون العنف والاغتصاب والقتل هو العرف السائد. فبدون هذا الاستقرار السياسي فإن أفضل ما يمكن أن تحصل عليه باكستان سوف يكون نوعاً من الديمقراطية غير الدائمة. والتر رودجرز كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة"كريستيان ساينس مونيتور"