يذهب المصريون الآن لصناديق الاقتراع لانتخاب برلمان ديمقراطي، وهي تجربة لم يسبق لهم أن خاضوها طيلة نصف قرن، وتمثل حدثاً استثنائياً يدعو للابتهاج في الحقيقة. والشيء الجدير بالملاحظة بشأن هذه الانتخابات، أنه قبل بدايتها بأسبوع كان يُظن أن إجراءها في موعدها المحدد بالضبط أمر من قبيل المستحيلات، حيث تنبأت وسائل الإعلام بأنه من غير الممكن تنظيم انتخابات نزيهة في الظروف الحالية، وأنه حتى إذا جرت بالفعل، فإنها ستكون عنيفة ودموية. لكن الشعب المصري لم يخش شيئاً من ذلك، وتذكر أبناءه كيف أنه منذ عشرة شهور فقط عندما بدأت الانتفاضة الشعبية تنبأ الخبراء أن نظام مبارك على درجة من القوة والمنعة تجعل من نجاح الثورة أمراً غير متوقع، وقالوا إن الشعب المصري ليس من نوعية الشعوب التي تثور على حكامها وأنه، حتى لو فعل فلن يكون لديه فكرة عن كيفية تطبيق الديمقراطية. والانتخابات الجارية حالياً في مصر، شأنها شأن الثورة، تتحدى كافة التوقعات. فحتى الآن أدلى ما يزيد عن 70 في المئة ممن يحق لهم الانتخاب في البلاد بأصواتهم، وقرروا الخروج على الرغم من الطوابير الطويلة، ليس هذا فحسب بل أن السلام ساد العملية برمتها أيضاً. والسؤال: لماذا تحدى المصريون التوقعات... وما الذي يخبئه المستقبل في مرحلة ما بعد الانتخابات؟ في سنوات النشأة والتكوين التي قضيتها في مصر، كنا دائماً ما نتساءل عن التأثير الذي لعبه نهر النيل على طبيعة الشخصية المصرية، وما تتصف به من ميل للمسالمة والمرح والتسامح، وكذلك تأثيره، على وجه من الوجوه، على موقفهم السلبي تجاه التغيير. والشخصية المصرية كانت أيضاً محل اهتمام من عالم الجغرافيا المصري الشهير جمال حمدان الذي كتب في كتابه الذائع الصيت"عبقرية المكان" عن "التفاعل الفريد بين جغرافية مصر وثقافتها. وقال حمدان إن المصريين يتميزون بقوة التحمل والصبر وطول البال لأن زمن حضارتهم العريقة امتد لآلاف السنين مما كان يجعل أي تغير يتم عبر عدة عشرات قليلة من السنين يبدو فجائياً في نظرهم. كانت هذه هي الفكرة السائدة، ولكن المصريين وكما نرى الآن قد اثبتوا مرة أخرى أنهم قادرون على التغيير الشامل والسريع ، متى ما اعتبر الشعب برمته مثل هذا التغيير ضرورياً. لقد ثارت مصر أربع مرات فقط منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، بمعدل مرة واحدة كل 40 عاماً تقريباً. وعلى الرغم من أن التغيير الذي تم خلال نصف القرن الماضي لم يحقق مكاسب ديمقراطية، إلا أنني اعتقد أن الديمقراطية سوف تكسب هذه المرة. منذ خمسة أعوام وفي ذروة حكم مبارك كتبت عن أعمدة التغيير الأربعة التي يمكن أن تحول مصر إلى مجتمع قائم على المعرفة وإلى دولة ديمقراطية وهي: العمود الأول: الإصلاح الدستوري. منذ يناير الماضي طرأت تعديلات مهمة على الدستور من أهمها قََصْر المدة الرئاسية على أربع سنوات على ألا يشغل أي رئيس المنصب أكثر من مدتين. وعلى الرغم من أن صياغة الدستور في صورته النهائية لن تكتمل قبل بداية العام المقبل، إلا أنه من الواضح أن صلاحيات الرئيس سوف يتم تقليصها، وأنها ستكون محل رقابة من قبل برلمان منتخب، وقضاء مستقل. العمود الثاني: احترام حكم القانون: هناك من الأسباب ما يدعو للتفاؤل بشأن هذا العمود من أعمدة التغيير. فالقضاء ظل متماسكاً في مجمله، وقادراً على إقامة العدل في البلاد. ثم جاءت الأحداث التي تلت الثورة لتبعث الحيوية في كيانه مجدداً، وهو ما انعكس بشكل واضح على أدائه خلال الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية الجارية حالياً التي تمت تحت الإشراف القضائي الكامل. العمود الثالث: تحقيق نهضة تعليمية. هذه النهضة قد دشنت بالفعل حيث خطت الحكومة المصرية منذ بداية الثورة في يناير الماضي خطوات واسعة على هذا المضمار، الذي كان تطويره مستحيلاً أيام مبارك على الرغم من المحاولات المتواصلة التي قمت بها من أجل ذلك، وكان من أبرز تلك الخطوات إصدار مرسوم بقانون بتأسيس مدينة زويل للعلوم والتكنولوجيا من أجل تحديث التعليم في مجالي العلوم والتكنولوجيا وتحسين مستوى الإنتاجية. وهذه الخطوات هي بداية تحول سوف ينعكس على الأمة المصرية بأسرها. العمود الرابع: إصلاح الإعلام. هذا هو العمود الوحيد الذي لم يتم إرساؤه بعد: فوسائل الإعلام المصرية العام منها والخاص، ما زالت تفتقر لعمق واتساع التغطية، وتميل إلى الانحياز على حساب الموضوعية وبعضها يروج للفرقة والانقسام بين أبناء الوطن، وخصوصاً التلفزيون الذي يؤثر تأثيراً كبيراً على السكان. على الرغم من ذلك فإنه من المحتم قطعاً أن يؤدي تأثير الأعمدة الثلاثة الأولى من أعمدة التغيير - بعد إرسائها - على ولادة وسائل إعلام جديدة وأكثر عافية لمصر. واعتقد اعتقاداً جازماً أن قضية التغيير في مصر لا رجعة فيها، وأن أي قوة مهما كانت لن تتمكن من تعطيل الحركة نحو الديمقراطية. فحاجز الخوف قد زال، وروح التحرير لا تزال مستمرة كما أنني، واعتمادا على خبرتي في التعامل مع المجلس العسكري، استطيع القول مطمئناً إنني مقتنع بأن الجيش سوف ينقل السلطة لحكومة مدنية في النهاية. وفي رأيي أن مخاوف الغربيين من قيام الإسلاميين باختطاف الديمقراطية مبالغ فيها، لأن المصريين شعب متدين بطبيعته من أيام إخناتون، وكان الدين دوماً هو القوة الدافعة وراء وحدتهم المجتمعية. قد يسيطر الإسلاميون على الحكومة الجديدة ولكن أداءهم في دولة ديمقراطية حقيقية بالنيابة عن الشعب هو الذي سيحدد قدرتهم على البقاء. وتحديات المستقبل في مصر لا تقتصر على التحول للديمقراطية: فالدولة يجب أن تعمل على تحسين نظامها التعليمي والصحي المتواضع، كما يجب عليها معالجة الفجوة الاقتصادية الواسعة بين الأغنياء والفقراء، كما يجب عليها أيضاً ـ وهو المهم ـ تعزيز الأوضاع الأمنية بحيث تصل الاستثمارات والسياحة إلى أقصى طاقتهما كما يجب بالإضافة لذلك إجراء الإصلاحات الاقتصادية المطلوبة، لتحقيق الرخاء الذي يتوقعه المصريون في مرحلة ما بعد الثورة. في السنوات القادمة يجب على المصريين الاستفادة من"عبقرية موقعهم" من أجل المضي نحو المستقبل من دون أن يشكل الماضي قيداً على حركتهم الحرة للأمام. ــــــــــــــــــــــــــــــــ د.أحمد زويل حاصل على جائزة نوبل في الكيمياء عام 1999 وعضو مجلس مستشاري أوباما لشؤون العلوم والتكنولوجيا