من المقلق أن نرى الفخاخ والمآزق التي ينصبها المرشحون الجمهوريون لأنفسهم فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأميركية، وبخاصة فيما يتصل بإسرائيل والشرق الأوسط، فهم يلحقون ضرراً فادحاً بمصالح أميركا عندما يلحون على ربط الرئيس الأميركي بسياسات حكومة أجنبية، لاسيما سياسات نتنياهو، فماذا يمكن أن نسمي مثلًا تنديد المرشحين الجمهوريين، ريك بيري، وميت رومني علناً برئيس أميركي منتخب حتى تتطابق مواقفهما مع زعيم إسرائيلي غالباً ما تتعارض سياساته مع المصالح الأميركية. وقد حذر "نورمان أوسلون"، الدبلوماسي الأميركي السابق لدى إسرائيل الذي عمل في الإدارات الجمهورية والديمقراطية من أن "مطالبة المرشحين الجمهوريين للرئيس أوباما بالانصياع التام للسياسات الإسرائيلية ستضر بعلاقاتنا مع جميع الدول في العالم". وتلك المطالب والانتقادات لا تتوقف، بل تكتسي أحياناً نبرة حادة مثلًا عندما اتهم ميت رومني أوباما "بإلقاء إسرائيل تحت الحافلة" فقط لأنه أكد على حدود 1967 باعتبارها نقطة انطلاق المفاوضات مع الفلسطينيين، علماً بأن هذا الموقف ليس جديداً بل يتطابق مع تصريحات الرؤساء الجمهوريين والديمقراطيين السابقين. كما أن نتنياهو لا يسهل المأمورية على الولايات المتحدة، فالفكرة التي يدافع عنها والقائمة على تحويل إسرائيل إلى "قلعة حصينة" منعزلة عن العالم وتتبنى سياسات عدائية ومفرطة في قوتها هي في النهاية فكرة غير قابلة للاستدامة، ذلك أن الزمن والتكنولوجيا كفيلان بتعرية التفوق العسكري الإسرائيلي، طال الزمن أم قصر، وهو الإدراك الذي دفع أميركا إلى بذل جهود مضنية على مدى العقود السابقة للتوسط من أجل إحلال السلام والوصول إلى حل نهائي للمعضلة الفلسطينية. وخلافاً لمساعي السلام التي يبذلها الرؤساء لا نجد أي ميل نحو تسوية معقولة في تصريحات مرشحي الحزب الجمهوري، ولا أي إشارة إلى تبني دور الوسيط النزيه في عملية السلام! وإذا كان من المفهوم لجوء المرشحين الجمهوريين الطامحين للرئاسة إلى مغازلة الناخبين والمانحين اليهود وإبعادهم عن الديمقراطيين، إلا أن ذلك غالباً ما يأتي بتكلفة غالية تتمثل في التملق المهين عند عتبات الجناح اليميني الأكثر تشدداً في السياسة الإسرائيلية الذي عمل طيلة الفترة السابقة على نسف جهود السلام بما في ذلك مساعي الرؤساء الأميركيين بدءاً من كلينتون وانتهاء بأوباما. وبعبارة أخرى، يريد مرشحو الحزب الجمهوري "تعهيد" السياسة الخارجية للولايات المتحدة لأجنحة متشددة في إسرائيل هي الأقل ميلاً نحو تحقيق السلام. وبدلاً من الانجرار الأعمى وراء السياسات الإسرائيلية يتعين الاعتراف بالاختلاف والتباين الموجود في وجهات النظر بين تل أبيب وواشنطن، وليس أدل على ذلك مما قاله لي مسؤول بارز في الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية قبل عقد من الزمن حول "الحرب على الإرهاب"، حيث اعتبر الجملة مجرد عبارة مخففة للإشارة إلى الحرب بين الغرب والإسلام. والحال أن الولايات المتحدة ليست في حرب مع المسلمين، لم يكن ذلك في عهد بوش الذي ارتبط بعلاقات متميزة مع معظم الدول العربية، ولا في عهد أوباما الذي حاول مد يده إلى العالم الإسلامي. ولكن على رغم هذا الاختلاف في وجهات النظر بين إسرائيل والولايات المتحدة أصر ميت رومني في نقاشات الحزب الجمهوري بولاية فلوريدا على أنه لا وجود "لمسافة تفصل بين الولايات المتحدة وحلفائها"، في إحالة واضحة إلى إسرائيل! والواقع أنه يتعين على ريك بيري وميت رومني الإقرار بأن إسرائيل هي أفضل صديق لنفسها وبأنها لن تكون أبداً الصديق الأفضل لأميركا، ولنتذكر هنا قضية الجاسوس "جوناثان بولارد" الذي كان يتجسس لحساب إسرائيل وهو يعمل في "البنتاجون"، أو حادثة الهجوم على السفينة الأميركية "يو إس إس ليبرتي" في عام 1967 من قبل إسرائيل وقتل 34 بحاراً أميركيّاً. ومنذ فترة قريبة صرح وزير الدفاع السابق، روبرت جيتس، الذي عمل في إدارتي بوش وأوباما، بأن الولايات المتحدة لا تستفيد شيئاً من تحالفها مع إسرائيل، وحتى عندما يتودد ريك بيري إلى الصهاينة المسيحيين ويحاول قدر جهده إثبات حسن نواياه يتعين على المراقب أن يتساءل عما إذا كان اليهود سيلتفون فعلاً حوله، علماً بأنه في الحقيقة ينتمي إلى المسيحيين الإنجيليين الذين يؤمنون بعودة المسيح الثانية إلى إسرائيل ودعوتها إلى المسيحية. وقد كانت لافتة حقاً دعوة بيري للقادة الفلسطينيين الاعتراف بدولة إسرائيل وحقها في الوجود ونبذ العنف والتفاوض وجهاً لوجه معها! ألا يدرك بيري وغيره أن الفلسطينيين سبقت لهم الموافقة على كل تلك الشروط في اتفاقات أسلو 1993؟ والتر روجرز كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان سيانس مونيتور" ولكن مع ذلك وبدون ذرة خجل مضى بيري في تقريع الرئيس أوباما والتهجم على سياساته في الشرق الأوسط باعتبارها "ساذجة ومتغطرسة وفي غير محلها، وخطيرة"! فما الذي حدث لزعماء الحزب الجمهوري ومقاربتهم الواقعية للسياسة الخارجية؟ وأين هم أمثال بوش الأب، ووزير خارجيته، بيكر اللذين تعاملا ببراعة مع زوال الستارة الحديدية وسقوط الاتحاد السوفييتي وأشرفا معاً على توحيد ألمانيا من دون دخول أوروبا في حرب؟ ربما يتعين على بيكر الذي يُعد من أفضل وزراء خارجية أميركا منذ جورج مارشال في نهاية الأربعينيات التطوع لإعطاء دروس للمرشحين الجمهوريين وتلقينهم أساسيات السياسة الخارجية، وتذكيرهم قبل كل شيء بأولوية الولاء للولايات المتحدة، وليس لبلد أجنبي.