إذا كنا نريد حقاً للحالة الثورية الدراماتيكية التي تجتاح العالم العربي في الوقت الراهن أن تنتهي بنتيجة إيجابية، فإننا يجب أن نعمل على تحقيق السلام بين العرب والإسرائيليين الذي يمثل ضرورة حيوية لا غنى عنها. ولا شك أنه مع تفاقم أزمات إسرائيل، فإن ذلك يجعل من التوصل لصفقة سلام أمراً أكثر إلحاحاً من ذي قبل. الخيار المطروح بين الطرفين واضح: إما الاستمرار في حالة العداء التي لا معنى لها والعنف الأعمى الذي ساد مجريات العلاقة بين الإسرائيليين والعرب لعقود، وإما التوصل لاتفاقية تقوم على حل الدولتين الذي يوفر الأمن للإسرائيليين ودولة مستقلة ذات سيادة للفلسطينيين. والحقيقة أن التوقعات الخاصة بإمكانية تحقيق الخيار الثاني ليست كبيرة. ففي الوقت الذي تواجه دولة عربية بعد أخرى مخاض التحول من الديكتاتورية إلى الحرية، نجد أن إسرائيل الدولة التي ينظر إليها البعض في الغرب على أنها الأكثر ديمقراطية في المنطقة، تواجه سلسلة من التطورات التي تضعها في مشكلات تحسد عليها. هذه التطورات تتمثل فيما يلي: 1-إن مصر ما بعد ثورة 25 يناير التي أدت إلى انهيار حكم مبارك، شهدت تنامياً كبيراً للخطاب المعادي لإسرائيل، قاد المتظاهرين المصريين إلى اقتحام مقر السفارة الإسرائيلية في القاهرة وإرغام موظفيها على الفرار. 2-إن حركة "حماس" الفلسطينية المتطرفة التي تسيطر على غزة، نجحت في تحقيق فتوحات في الضفة الغربية التي تسيطر عليها حركة "فتح" المعتدلة. 3-إن الولايات المتحدة حليفتها الوثيقة تواجه مخاطر التعرض للغضب العربي، بسبب موقفها المعارض لحملة الفلسطينين للحصول على اعتراف بدولتهم من الأمم المتحدة خصوصاً بعد أن أعلنت على لسان كبار مسؤوليها أنها ستستخدم "الفيتو" للاعتراض على الطلب الفلسطيني في مجلس الأمن. 4-إن سوريا التي تعتبر المفاوضات معها بشأن وضع هضبة الجولان جزءاً حيوياً من أي مفاوضات للحل النهائي مع العرب تواجه في الوقت الراهن اضطرابات خطيرة تجعل مصير قيادتها محل شك. 5-إن تركيا، التي سعت لتحقيق المزيد من النفوذ في الشرق الأوسط، باتت تتخذ وضعها أكثر عدائية تجاه إسرائيل. وضمن هذا الإطار، يمكن القول إن تركيا في الماضي توسطت لعقد مفاوضات بين سوريا وإسرائيل، أما الآن، فإنها تهدد على لسان رئيس وزرائها باستخدام قواتها البحرية لتحدي الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة كما قامت بطرد السفير الإسرائيلي من أراضيها. 6-وكأن جميع تلك الأخبار السيئة لم تكن كافية بالنسبة لإسرائيل، نسمع في الوقت الراهن أخباراً تفيد بأن إيران قد سرّعت من خطواتها للحصول على سلاح أو أسلحة نووية. والسؤال هنا هل يمكن لإيران التي طالما تحدث رئيسها عن محو إسرائيل من الخريطة أن تصل إلى درجة من عدم التعقل يمكن أن تدفعها لتهديد إسرائيل بالصواريخ النووية، إذا تمكنت من إنتاج أي منها؟ الخطورة هنا تتمثل في أن إسرائيل التي تمتلك ترسانة نووية قد لا تنتظر طويلاً من أجل معرفة الإجابة على هذا السؤال. وعلى الرغم من أن إيران ليست دولة عربية، فإنها دولة إسلامية وقيام إسرائيل بضربها سوف يثير بالتأكيد عاصفة من الفوضى في الشرق الأوسط، حيث سيقوم أصدقاء وأعداء كل من إسرائيل وإيران بالوقوف إلى جانب طرف على حساب الآخر، بل ويمكن لذلك أن يدفع دولاً معينة في المنطقة للسعي لبناء ترساناتها النووية الخاصة. المشكلة الأكثر إلحاحاً ومباشرة من بين تلك المشكلات كلها تلك المتعلقة بإصرار الفلسطينيين على المضي قدماً في محاولتهم الرامية للحصول على اعتراف من الأمم المتحدة بدولتهم المستقلة. ويُشار في هذا السياق إلى أن رئيس السلطة الفلسطينية، قد قال إن إصرارهم على تلك المحاولة ينبع من إحساسهم العميق بعدم جدوى مسار المفاوضات مع الإسرائيليين من أجل التوصل لتسوية سلمية دائمة بينهم، وأن إعلان دولة فلسطينية مستقلة من قبل الأمم المتحدة، سوف يجعل الفلسطينيين على قدم المساواة مع الإسرائيليين-دولة مقابل دولة- في أي مفاوضات مستقبلية. ولكن الولايات المتحدة ترى أنه ليس هناك شيء اسمه طريق مختصر لتحقيق حلم الدولة، وأن خطوة الأمم المتحدة التي ينوي الفلسطينيون اتخاذها خلال الشهر الجاري، لن تحقق شيئاً سوى تعقيد المفاوضات. وبالإضافة إلى ذلك يتعين أن الكونجرس الأميركي المنحاز أصلاً لإسرائيل والمعادي للفلسطينيين بدرجة كبيرة قد يقرر قطع الدعم الذي تقدمه الولايات المتحدة للسلطة الفلسطينية إذا ما انتهت الخطوة المذكورة باعتراف الأمم المتحدة بالدولة الفلسطينية المستقلة. وإذ استمرت حالة العداء القائم في العلاقة بين إسرائيل وفلسطين التي تتخذ منها الولايات المتحدة موقفاً متحيزاً لإسرائيل، فإن ذلك سوف يؤدي دون شك لتقويض جهود إدارة أوباما لتحسين العلاقات مع العالم العربي. يذكر أن الولايات المتحدة لها مصلحة كبرى في تحقيق السلام بين الإسرائيليين سريعي الغضب، والفلسطينيين الذين يطالبون بإقامة دولتهم المستقلة، من خلال اتفاقية تسوية، لم يتمكنا من الوصول إليها حتى الآن. هذه الاتفاقية يجب أن تنص على قيام دولة فلسطينية تعيش جنباً إلى جنب الدولة الإسرائيلية مع قيام كل منهما بتقديم ضمانات أمنية للآخر.وهناك بالطبع تفاصيل صعبة سوف يتعين الاشتغال عليها من أهمها الموضوعات السياسية الخاصة بالحدود واللاجئين ، ووضع القدس وهو موضوع يحظى بحساسية دينية كبيرة. ليس هناك من أحد يمكنه الادعاء بأن تحقيق ذلك كله سوف يكون بالأمر اليسير. ولكن الشيء الذي لا شك فيه أن عواقب الفشل في تحقيقه، يمكن أن تصل إلى حدود لا يمكن تخيلها. منظومة القيم في عصر الاستبداد د. طيب تيزيني أستاذ الفلسفة - جامعة دمشق جاءت المظاهر الأولى لتفكُّك الدولة الأمنية في بعض البلدان العربية، لتدشّن مرحلة جديدة في دراسة الاستبداد. ومعروف أن الاستشراق الألماني اهتم على مدى القرن التاسع عشر بهذه الظاهرة، إلى درجة أن مصطلح "الاستبداد الشرقي" اعتُبر من قِبل بعض ممثلي هذا الأخير من المستشرقين الألمان، حالة نموذجية خاصة جديرة بالفحص والبحث. وإذا كان غير محتمل أن نفصل هذا الاستبداد من خصائص البنية الاجتماعية والاقتصادية التي سادت في حينه، فإنه يبقى التحدث وارداً عن سمات معينة خاصة به. من ذلك، مثلاً، إنه استبداد ينحصر في طغمة أو مجموعة قليلة، وفيها تنمو المطامح في الحكم بحيث يجتمع فيها كل أشكال إذلال "الأتباع" المادية والمعنوية والأخلاقية. وهذا لا يعني أن ممارسة تلك الأشكال الاستبدادية موجودة في نسيج شخصية الشرقي بل في جيناته الوراثية: إنها، إذن، خصوصية نسبية تظهر فيها أمثال العناصر التالية: على التابع الخاضع للاستبداد أن يصل إلى أن تعبيته الكامل لأسياده هي من طبائع الأمور. ومن المفارقة أن أرسطو اليوناني (الغربي) هو الذي تحدث عن ذلك، معتبراً أن التابع "شيء" وليس "ذاتاً" مما ينفي عنه إحساسه بتبعيته، ووعيه بذاته. من هذه الفكرة الأخيرة، ننطلق لنذكّر بمشاهِد تظهر في بعض مدن "الخريف العربي": طفل أو رجل يُقتل بالرصاص الحي ويفقد حياته، ولكن يُستمر في إطلاق الرصاص على الجثة الميتة، بنوع من الهوس والذعر وبحالة من الانتشاء الحاقد. ومشهد آخر يتجلى في طفل تلقى ثلاث رصاصات أفقدته حياته، ولكن القاتل يحزّ رقبته إلى نصفها...إلخ، ومشهد ثالث تجسّده فتاة يستبيحها ثلاثة رجال منفردين ومجتمعين، ثم يأمرونها بالخروج إلى الشارع عارية مدمَّاة، فهؤلاء الثلاثة وأمثالهم هم علوج يجسدون نمطاً من الكائنات، التي يبحث فيها علماء في الدراسات الحضارية المقارنة، فأحد مواضيع هذه الدراسات يتمثل في ما يطلق عليه "الإنسان الذئبي"، الذي يخرج عن دائرة "الإنسان العاقل"، بقدرته على انتصاب قامته، وتمكُّنه من استخدام أصابعه، وبتطوره باتجاه العقل المطابق. إن كل ذلك مما ينضوي في إطار ما أوردناه وضمن مجتمع أُذِلَّ وحُرم من الثالوث المقدس: الحرية والكرامة والكفاية المادية، على مدى يقترب من نصف قرن، يظهر الآن جلياً كالشمس. والحقيقة، إن هذا الظهور الجلي للحطام العربي (وضمنه السوري) ليس جديداً أو -على الأقل- كان من قبل موجوداً. ولكن الجديد في ذلك يكمن في أن تراكمه المديد والشمولي لم يعد سراً، ولم يعد الكلام عليه خطراً. لقد عبّر الشعب السوري عن ذلك ببساطة هائلة، حين أعلن: لقد انكسر الخوف وانكسر معه الصمت، فجاء البركان الذي راح يزلزل الأرض تحت أقدام الطغاة. ويهمنا هنا، كذلك، أن منظومة القيم التي يصل عمرها إلى ما يقترب من نصف قرن، بدأت تنهار. لقد تحول "الربيع العربي" إلى أنموذج حي في بلدان كثيرة، وخصوصاً في أوساط الشباب. ولعل ذلك أنتج حالتين اثنتين كبريين في معظم العالم العربي: الحالة الأولى تتجسد في أن قضية تحرير المرأة والرجل لم تعد مسألة جزئية، بل لعلها تحولت إلى مدخل لرفع راية الحرية والمشروع النهضوي. أما إسقاط سجون الباستيل العربية فهي الحالة الثانية. إصلاح المفاوضات أو إسقاطها سيبقى "إصلاح" المفاوضات استحقاقاً مسلطاً على واشنطن، وسيكون عليها أن تقود هذا الإصلاح أو تجازف بدفع شعوب "الربيع العربي" إلى المطالبة بـ"إسقاط المفاوضات" عبدالوهاب بدرخان كاتب ومحلل سياسي - لندن سواء حصل الفلسطينيون على دولة كاملة العضوية في الأمم المتحدة أو على مرتبة دولة مراقبة من دون عضوية، فإنهم يعرفون، وقد أعلنوا ذلك، أنه لابد من العودة إلى المفاوضات مع الإسرائيليين. إن أي مكسب في الجمعية العامة، باعتبار أن مجلس الأمن مقفل بداعي "الفيتو" الأميركي، سيلقي بظلاله على المفاوضات ليفرض تغييراً جوهرياً أو طفيفاً على قواعد اللعبة. لكن قبل العودة إلى التفاوض، هناك الانتقام الإسرائيلي والانتقام الآخر الأميركي اللذان سيتضافران لإفساد الواقع الفلسطيني الجديد. فهذه العودة إلى الأمم المتحدة، إلى الشرعية الدولية، اعتبرت أميركياً وإسرائيلياً بمثابة تمرد أو انتفاضة أخرى أو لعب خارج الهامش المتاح للفلسطينيين، ليس فقط منذ توقيع اتفاق أوسلو، لكن خصوصاً منذ أصبحت هناك "لجنة دولية رباعية" تتولى إدارة الحل أو بالأحرى "اللاحل" المتفاوض عليه. استشرست الدبلوماسية الأميركية على السلطة الفلسطينية بفظاظة لم تعرف إلا أيام هذه السلطة، مع ياسر عرفات، تفاوض بيد وتواصل المقاومة المسلحة بيد أخرى. ضغطت واشنطن لإعادة الطرفين إلى المفاوضات مع علمها أن الظروف والشروط ليست مواتية. إذ لا تجهل واشنطن أن المشكلة اسمها بنيامين نتنياهو وافيغدور ليبرمان قبل أن يكون محمود عباس. بل تعرف، وقد قالت ذلك بلسان باراك أوباما وهيلاري كلينتون أن الاستيطان غير قانوني وأنه يقوّض أسس السلام. مع ذلك جاء المبعوثون الأميركيون، الواحد تلو الآخر، إلى رام الله تارة لإقناع وطوراً لتهديد "أبومازن" بأن عواقب وخيمة تنتظر الفلسطينيين إذا لم يوافقوا على العودة إلى مفاوضات معروف مسبقاً أنها باتت مهترئة ولا تعني سوى المزيد من سرقة الأرض. أخطأت الولايات المتحدة بالاعتقاد بأن سيرها في ركب "الربيع العربي" لا يلزمها بتغيير مقاربتها لقضية فلسطين. سيغدو ذلك خطأً تاريخياً، لأن الشعوب التي خاطبها أوباما، وأدعى قادة غربيون آخرون الإيمان بطموحاتها، لم تنس أن شيئاً من مفاوضاتها مع الاستبداد الداخلي مرده إلى الظلم التاريخي الذي ألّم بفلسطين وشعبها. فقضايا الحرية والكرامة وحقوق الإنسان تسقط إذا عوملت بالتمييز وتشريع الإجحاف هنا وتجريمه هناك. وإذ انقسمت هذه الشعوب بشأن مبدأ السلام مع إسرائيل، إلا أنها أعطت فرصة للمفاوضات امتدت عشرين عاماً، ابتعدت عن طموح التحرير بالحرب آملة في أن يتلقف الأميركيون والإسرائيليون هذه الرسالة لكنهم استهزأوا بها ولايزالون مندفعين إلى حل سلمي غير سلمي يقوم على الرضوخ لميزان القوى العسكرية بدل إعلاء مفاهيم التعايش، بل يقوم على إدامة اعتماد وظيفة إفساد المنطقة التي عهد بها إلى إسرائيل بدل رؤية دول المنطقة - بما فيها إسرائيل - وشعوبها تعيش في سلم قائم على العدل. كانت الشهور الماضية فرصة حقيقية للولايات المتحدة لسكب شيء من الواقعية إلى كأس الانحياز الأعمى الذي تتجرعه إذ تحاول معالجة "كارثة" استعداد الفلسطينيين للعودة إلى الأمم المتحدة. فهم لا يحاربون ولا يهددون وجود الدولة العبرية ولا أمنها، كما أنهم يسلكون السبيل الأكثر سلمية في الدفاع عن قضيتهم. ما كان مطروحاً خلال هذه الفترة ليس بذل المستحيل لـ"منع" الفلسطينيين من خطو هذه الخطوة التي هي من حقوقهم الطبيعية والقانونية والإنسانية، بل كان ولايزال حتى اللحظة مطلوباً "إصلاح" المفاوضات وتجريدها من الفساد الذي نخر في أوحالها، و"إصلاح" العقلية والطريقة والمفاهيم والمصطلحات التي تحكم إدارة "الرباعية" لهذه المفاوضات. لم يكن مستغرباً أن يرفض الفلسطينيون مواصلة التفاوض مع استمرار الاستيطان، بل كان مستغرباً أن يمارس الأميركيون كل الأساليب لدفعهم إلى التغاضي على الاستيطان، بل الأهم أن الرأي العام العربي والفلسطيني استغرب كيف أمكن للفلسطينيين أن يتحملوا هذه المفاوضات التي أضحت منذ زمن فضيحة مكشوفة. في أي حال، سيبقى "إصلاح" المفاوضات استحقاقاً مسلطاً على الإدارة الأميركية، وعلى اللجنة الرباعية والأمم المتحدة، وسيكون على واشنطن أن تقود هذا الإصلاح أو تجازف بدفع شعوب "الربيع العربي" إلى المطالبة بـ"إسقاط المفاوضات" حتى لو لم يكن هناك أي بديل حربي لديها. ولعل واشنطن توغلت عميقاً في هذه المجازفة، بدليل أن مبعوثيها ديفيد هيل ودنيس روس حملا إلى الرئيس الفلسطيني تصوراً لـ"الحل النهائي" هو نفسه التصور الإسرائيلي، من دون مفاوضات وقبل استئنافها، كما لو أنهما أرادا إبلاغ الفلسطينيين أن العدالة المنشودة من الأمم المتحدة لم تكن ولن تكون خياراً أميركياً. -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"