وزع الأميركيون، مرة أخرى، الأوراق في النسخة الأخيرة من اللعبة الكبرى المحيطة بأفغانستان، بعدما خط أوباما طريقاً غير قابل للرجوع نحو خفض القوات الأميركية، بحيث بات على جيران أفغانستان القريبين منها وهم باكستان والهند والصين وروسيا وإيران أن يقرروا ما إذا كانوا سينخرطون في هذه اللعبة، أم أنهم سينأون بأنفسهم عنها. فعلى رغم ما حققته القوات الأميركية في أفغانستان من تقدم في عدد من المحافظات وممارستها الضغط على "طالبان"، فإن ذلك يبقى معرضاً للانتكاس ومرشحاًِ للتراجع، كما أن الأفغان برهنوا، ولعقد كامل من الزمن، على عجزهم عن حل مشاكل بلادهم حتى في ظل الوجود الأميركي والتضحيات المبذولة في الأرواح والأموال. ولكن اليوم، بعد الإعلان عن الانسحاب الأميركي المتدرج تبدو الرهانات جسيمة بالنسبة للدول المجاورة لأفغانستان، فتأييد الرأي العام الأميركي للحرب آخذ في التآكل، كما أن ابن لادن الذي من أجله احتلت أفغانستان اختفى عن المشهد، فيما الحلفاء في "الناتو" ما فتئوا يظهرون تململهم ورغبتهم في طي صفحة الحرب، فما الذي سيحدث في ظل الفراغ الحاصل بعد مغادرة القوات الأميركية لأفغانستان؟ حتى تكون الإجابة مريحة للجميع يتعين على الجوار الأفغاني التحرك وتحديد ما إذا كان يريد حاضنة أصولية تفرخ الإرهاب وتطلق العنان لعملية نزوح كبيرة للاجئين داخل حدود البلدان المجاورة، أم تريد مصيراً مغايراً. ولذا أعتقد أنه لا يوجد وقت أنسب من الآن لعقد مؤتمر إقليمي حول أفغانستان تحضره جميع الدول المجاورة على أن تأخذ أجندته بعين الاعتبار المخاوف والمصالح المشتركة، وتتمحور حول منع التطرف الأصولي من التجذر في أفغانستان وباكستان والحد من إنتاج المخدرات والمتاجرة فيها، فضلاً عن فتح الحدود الإقليمية أمام التجارة وأنابيب نقل الطاقة التي ستستفيد منها الأطراف جميعاً. ولكن المشكلة تبقى في عدم توافق جميع الأطراف على ما يشكل تسوية جيدة، وفي هذا الإطار يرى "شوا نواز" من المجلس الأطلسي أن: "الصين تريد أفغانستان مستقرة، كما ترغب في استقرار المنطقة بأسرها لفتح الأسواق أمام منتجاتها في وسط آسيا والوصول إلى المواد الخام مثل النحاس والمعادن النادرة التي تزخر بها أفغانستان، بالإضافة إلى عدم رغبتها في رؤية تمدد للتطرف الإسلامي في أفغانستان وباكستان واحتمال وصوله إليها". ومن هذا المنطلق قد يعتقد المرء أن الصين شريك مثالي لواشنطن بسبب تراجع المصالح الأميركية في أفغانستان. ولكن بكين مستاءة من مبيعات الولايات المتحدة من الأسلحة لتايوان، هذا بالإضافة إلى ميل الصين إلى التركيز فقط على مصالحها الأحادية وعدم رغبتها في الظهور، وكأنها تتعاون مع الولايات المتحدة خوفاً من إغضاب الأصوليين وإثارة حفيظتهم. أما روسيا فتظل غير مرتاحة، على كل حال، من انتشار القواعد الأميركية على حدودها الجنوبية. ولكنها تشترك مع أميركا في عدم رغبتها في انزلاق أفغانستان مجدداً إلى الفوضى والتطرف، ولذا يفضل الروس حسب "ريد إندرفورث" من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية خروجاً أميركيّاً تدريجيّاً من المسرح الأفغاني. وإذا كان إعلان أوباما الانسحاب من أفغانستان سيرضي المواطنين الأميركيين فإنه من جانب آخر سيزعج بعض جيران أفغانستان وفي مقدمتهم الهند التي انخرطت في حرب طويلة ضد الإرهاب حتى قبل الولايات المتحدة، حيث تحبذ هي الأخرى انسحاباً بطيئاً للقوات الأميركية على أن يتزامن ذلك مع جهود فرض الاستقرار في المنطقة. والأمر لا يقتصر على الهند، بل يمتد إلى باكستان المتخوفة من تكرار سيناريو الانسحاب السوفييتي من أفغانستان في 1989 وما تلاه من فوضى وحرب أهلية. غير أن الورقة الأكثر إثارة وتشويقاً تبقى بيد طهران، إذ لم تحدد إدارة أوباما بعد الدور الذي يمكن لإيران أن تلعبه في أفغانستان ولا المكان الذي تشغله في مستقبل البلد، فقد دعا أنصار الواقعية في السياسة الخارجية مثل وزيري الخارجية السابقين، جيمس بيكر وهنري كيسنجر، إلى إشراك إيران في اللعبة، ولكن ذلك سيستفز على الأرجح إحدى الدول العربية السنية الكبيرة التي ستطالب بالمشاركة في المؤتمر حول أفغانستان، هذا بالإضافة إلى العراقيل المرتبطة بسجل طهران المعروف بإثارة المشاكل ناهيك عن طبيعة الثمن الذي ستطالب به مقابل تعاونها في أفغانستان. وفي كل ذلك تبدو العقبات كبيرة وحقيقية، إذ لا أحد من دول الجوار يبدو لحد الآن مستعداً لمساعدة أوباما على الخروج من المأزق الأفغاني، فقد تختار باكستان على سبيل المثال نظرة ضيقة بالرجوع إلى استراتيجية التحريض في أفغانستان باسم القبائل البشتونية المشتركة والأخوة الإسلامية وغير ذلك. ومع هذا يبرز أمل متواضع مصدره عدم رغبة الجوار الأفغاني في التعايش مع دولة فاشلة تعيش على المخدرات وتصدير الإرهاب. وأكثر من ذلك أن اللقاء المرتقب اليوم، الأول من يوليو، بين وزيري خارجية الهند وباكستان يفتح نافذة فرص من الأمل في احتمال تجاوز البلدين لعدائهما التقليدي والتوصل إلى اتفاق يخدم مصالح الجميع في المنطقة، وينعكس إيجاباً على الوضع في أفغانستان، لاسيما بعد حالة الاستعجال التي خلفها خطاب أوباما حول أفغانستان، وإعلانه بصراحة عن انسحاب أميركا من المنطقة، هذا الانسحاب الذي قد يولد شروراً تمتد إلى دول الجوار كافة لتحترق بلهيبها حتى قبل أن يصل الضرر والشرر إلى الولايات المتحدة البعيدة. والتر روجرز كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"