ينسب إلى "جوزيف جوبلز"، رائد الدعاية النازية الشهير قوله "إذا كذبت كذبة كبيرة وظللت ترددها فإن الناس في النهاية سيصدقونها"، وهو ما حدث بالضبط بالنسبة لأوباما الذي رُددت حوله أكاذيب وافتراءات لأكثر من سنتين ونصف السنة تزعم أنه يفتقد لصفات القائد، فمن جهة يقول منتقدوه الأقل تشدداً والأكثر حكمة إنه يفتقر للثقة في النفس، وإنه ضعيف ومتردد، ومن جهة أخرى يدعي المنتقدون المتطرفون، الأكثر تشدداً، أنه مسلم أو شيوعي وليس أميركيّاً. واليوم وحتى بعد تخطيطه الرائع وتوجيهه لعملية قتل بن لادن يشتكي خصومه من أنه لم يملك بعد ما يكفي من الشجاعة لنشر صور جثة بن لادن! والحقيقة أن هذه الضغينة التي يستشعرها المرء لدى خصوم أوباما هي من ذات طينة الهجمات الحزبية الشرسة التي تعرض لها جميع الرؤساء الأميركيين ما عدا ريجان منذ فضيحة "وترجيت"، وفيما يعكس بعض الهجمات تعصباً مستحكماً ضد أوباما يُظهر بعضها الآخر مفاهيم أميركية خاطئة ومتقادمة حول القيادة، فالثقافة الأميركية تعلي عادة من شأن العجرفة والشجاعة المزيفة باعتبارهما عنصرين أساسيين في فن القيادة! ولكن ما لا يدركه العديد من الأميركيين هو أنه من السهل الاستعراض أمام الرأي العام مثل ارتداء زي سلاح الطيران والإعلان عن "انتهاء المهمة" فيما من الصعب الانخراط في تفكير هادئ يأتي بنتائج عملية على الأرض مثل حشد تحالف دولي لحماية المدنيين في ليبيا خلال وقت قياسي. وهذا الانحياز إلى الاستعراض على حساب العمق والجوهر ينشأ معنا منذ الطفولة، حيث تُضخم كتب التاريخ لدينا من أبطال الحرب في الوقت الذي تصمت فيه عن الدبلوماسيين المحنكين الذين ساهموا في تجنيب العالم شرور الصراعات. ولكن دعونا نتذكر المهام الكبيرة التي أنجزها أوباما طيلة مسيرته دون ضجيج، فقد ساهم في إعادة الهدوء إلى الأسواق بعد أسوأ مرحلة اقتصادية تعيشها أميركا منذ الكساد العظيم بعدما استعادت سوق الأسهم عافيتها ورجعت إلى الوضع الذي كانت عليه قبل الأزمة. وعلى رغم استمرار البطالة فقد ساعدت خطة الإنقاذ المالي التي أقرها في إنقاذ مئات الآلاف من الوظائف، فيما شكل تدخله لضخ أموال في "جنرال موتورز" إنقاذاً آخر لرمز من رموز الصناعة الأميركية. وبتدخله المبكر لمنع انتشار الأزمة حافظ الآلاف من الأميركيين الغارقين في الديون على منازلهم المرهونة، وعمل بجد لتفادي عمليات الحجز. وعلى رغم المعارضة القوية فقد مرر أوباما أيضاً بنجاح إصلاحات مهمة في مجال الرعاية الصحية، كما سن قوانين شجاعة لتعزيز حماية المستهلك والحد من جشع "وول ستريت"، وأخيراً وقع معاهدة تاريخية مع ميدفيديف حول الأسلحة النووية. إلا أن الرأي العام الذي نسي كل هذه الإنجازات انجر بسهولة وراء حملة التشنيع التي تهدف إلى الانتقاص من أوباما والحط من قيمة نجاحاته، وما زالت تلك العدمية الشبيهة بقاعدة "جوبلز" التي ترفض كل ما يصدر عن أوباما مستمرة حتى وقتنا الحالي. ثم جاءت الطريقة الهادئة والذكية التي أدار بها أوباما عملية تعقب بن لادن التي انتهت بمقتل زعيم "القاعدة" لتدحض كل الادعاءات الموجهة لأوباما، فلشهور طويلة وهو يتابع عملية التعقب، ولنقارن طريقته مع تلك الطريقة التي انتهجها سلفه بوش في البحث عن زعيم "القاعدة"، فحسب "بروس ريديل"، الضابط السابق في وكالة الاستخبارات المركزية، فقد انخدع بوش بسرعة بالباكستانيين، ولاسيما أنه كان معجباً ببرويز مشرف، ففي عام 2002 طمأن مشرف بوش بأن بن لادن يوشك على الموت لأنه مريض ويخضع لعملية غسل الكلى بشكل دوري. وبالإضافة إلى كل ما سبق ينبغي التذكير أيضاً بأن الذوق السليم يمثل أحد مميزات القيادة، ولنقارن هنا أيضاً الطريقة التي تعامل بها بوش مع محاكمة وإعدام صدام التي تحولت إلى مسرحية ممجوجة مع رفض أوباما الذكي نشر صور لجثة بن لادن، كما أن إعلان مقتل بن لادن جاء متزناً وخاليّاً من مشاعر الانتشاء والتشفي مقارنة مع النبرة الاحتفالية التي تميز بها بوش. وقد تعرض أوباما لانتقادات لاذعة من قبل خصومه لعدم استجابته السريعة للتحولات الأخيرة التي شهدتها اليمن وتونس والبحرين ومصر وليبيا وسوريا، ولكن بالنسبة لي كمراسل عمل طويلًا في الشرق الأوسط يمكنني أن أؤكد أن عدم الانخراط في الصراعات العربية الداخلية ليس تخليّاً عن المسؤولية بقدر ما هو حكمة تستدعيها تعقيدات الموقف. ولكن ومع ذلك عندما تبين أنه في إحدى الحالات سيتحول الأمر إلى أزمة إنسانية سارع إلى حشد تأييد حلف شمال الأطلسي للتعامل مع الثورة الليبية مع إبقاء التدخل الأميركي في حدوده الدنيا دون إرسال قوات برية. صحيح أيضاً أن أوباما لم يجعل الحد من الدَّين العام أولوية له، ولكن عندما كان "الجمهوريون" يسيطرون على البيت الأبيض والكونجرس طيلة العقد الماضي انفجر الدين الأميركي ووصل إلى مستويات قياسية، وقد أطلعني صديق لي من وسط اليمين أن السبب الذي دعاه للتصويت على أوباما هو ما وصفه بقوله: "شعوري بعدم حمله أي ضغينة في قلبه"، ما يشبه مرحلة سابقة في التاريخ الأميركي عرفت نفس الدرجة من الانقسام عندما قال الرئيس لينكولن مخاطباً الجماهير "بدون حقد لأحد وبالتقدير للجميع..."، ولذا فمن المفيد الإشارة إلى أي مدى يقترب مفهوم أوباما حول القيادة من فكرة لينكولن من قبله. والتر روجرز كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"