لقد ظل جثمان القائد الشيوعي فلاديمير إليتش لينين محنطاً ومعروضاً بالساحة الحمراء بموسكو منذ عام 1924. والآن تصاعد الضغط من أجل دفن الجثمان، بل لقد أطلق حزب سياسي في روسيا موقعاً إلكترونيّاً خصص لاستطلاع رأي الجمهور والسماح له بالتصويت لصالح الفكرة أو ضدها. وحتى الآن وافق ثلثا المستطلعة آراؤهم على دفن الجثمان. غير أن في هذه الخطوة -إذا ما حدثت- خيانة كبيرة للتاريخ. ذلك أن الدفن سيكون بمثابة محو للإرث الشيوعي سيئ الصيت الذي خلفه. فقد أدى نهج الاشتراكية الذي دعا إليه لينين إلى إفلاس روسيا اقتصاديّاً وأخلاقيّاً على حد سواء، ما جعلها نموذجاً لدول العالم الثالث المتخلفة، في جوانب عديدة إلى اليوم. فقد ساد في الاتحاد السوفييتي السابق نمط اقتصادي صمم خصيصاً لعشرينيات العقد الماضي، ترمز إليه ثنائية المطرقة والمنجل، وهو ذات النمط المتخلف الذي يحاول اليوم المنافسة في سوق عالمية تسيطر عليها تكنولوجيا الرقائق الإلكترونية الدقيقة! كما كان الوعد اللينيني بإقامة نظام دولي جديد، مبرراً انحرافيّاً لاستعادة وإحياء سياسات الإمبراطورية الروسية القديمة. وبينما وعد النظام الشيوعي العالمي الجديد بإبطال الاستعمار وهدم الإمبريالية، فقد عزز استمرار هاتين الظاهرتين على نحو مخزٍ، ما أدى لاستعباد ملايين البشر داخل وخارج الحدود الروسية. وربما كان من عادة الروس -كما يقول أحد أمثالهم الفلاحية الشعبية- ألا يحمل المرء قمامته إلى خارج الكوخ أو الدار! غير أن من المهم بالنسبة للأجيال الروسية الحالية والمستقبلية أن يظل الجثمان مكشوفاً حتى تفهم هذه الأجيال حقيقة أنه ليس في وسع البشر مواراة أخطائهم وجعل التاريخ يتناساها. وهذا ما لم يستطع الأباطرة الرومان تحقيقه، تماماً مثلما عجز عن ذات الشيء كل من جوزيف ستالين و"ماو تسي تونج". والقصد هنا كما هو مفهوم، أنه لا معنى أصلاً لطقس عبادة الفرد الذي ساد روسيا السوفييتية. وحين تصعد في المسرح السياسي الروسي شخصيات وطنية متطرفة تدعي لنفسها مهمة إنقاذ الوطن من محنته فإن على المواطنين الروس، وخاصة الأجيال الشابة منهم، أن يتعظوا بدروس التاريخ ويتذكروا عند إلقاء نظرة واحدة على ضريح لينين أن من قدر الأيديولوجيات الجامدة المتعصبة وغير المتسامحة دائماً أن تكون مثقوبة ومدمرة إلى حد يصعب تخيله. فقد أفرزت عبادة الفرد التي دشنها لينين ورفاقه اللاحقون، معسكرات التعذيب الجماعي التي كانت تعرف بـ"الجولاج"، وكذلك ممارسات الإبادة والمجاعات الجماعية للملايين، وغيرها من الآثام والشرور التي لا يمكن تصورها. وهذا ما يحثني على القول بحاجة المواطنين الروس إلى رؤية رموز حقيقية لهذه الجرائم البشعة التي ارتكبت بحق ملايين الأبرياء منهم. وليس ثمة رمز أفضل من وجود قادة السوء هؤلاء مكشوفين أمام عيون الناس مباشرة. وربما يكون هناك من له مصلحة في دفن التاريخ أو إخفائه بعيداً عن الوعي والعيون، ولكن لن يطول هذا الإخفاء كثيراً على أية حال. فعلى سبيل المثال لم يدرك المؤرخون إلا قريباً جدّاً أن الزعيم الشيوعي الصيني المؤسس "ماو تسي تونج" كان قد أرهق كثيراً من مواطنيه جراء المجاعة الجماعية التي سببها لهم خلال السنوات الأربع الممتدة بين 1958- 1962 وحدها. وفيما لو حرصت المجتمعات الحديثة على أن توصف بأنها متحضرة وعصرية ومثقفة، فإن ذلك يتطلب مدها بجرعات من التأمل ونقد الذات، حتى تكون معرضة للانتكاس تارة أخرى إلى وحشية القرون الوسطى وظلاميتها. يذكر أنه كان قد عرف عن الشاعر الروسي الكبير ألكساندر بوشكين قوله: "إن كنت ممن يرغبون في سماع تعليق غبي عن روسيا، فما عليك إلا أن تسأل أحد الأجانب عن رأيه فيها"! وربما صحت هذه المقولة، غير أن الاتحاد السوفييتي السابق كان وطناً لي لمدة خمس سنوات من عمري، بينما شكّل قادته الجزء الأعظم من العلاقات الدولية التي سادت خارج الحدود الروسية. وهذا ما يلقي على المواطنين الروس واجب إعادة النظر في التركة اللينينية ونقدها. أما الغربيون الذين شهدوا أفول نجم الاتحاد السوفييتي، فلا تراودهم أدنى شكوك في ضعف التركة الفكرية التي خلفها لينين وعدم تماسكها منطقيّاً. يجدر بالذكر أن نتائج استطلاعات الرأي العام الروسي التي أجريت هذا العام، أظهرت شكوكاً في أوساط كثيرين بشأن لينين وتركته. وعلى نقيض هذه النتائج، أظهر استطلاع أجري في عام 2004 أن نسبة 63 في المئة من الروس قد عبروا عن وجهة نظر إيجابية فيما يتعلق بتقييمهم للدور الذي لعبه لينين في تاريخ بلادهم والعالم معاً، على رغم تضاؤل هذه النظرة الإيجابية في أوساط الشباب الأحدث سناً الذين شملهم ذلك الاستطلاع. بل إن غالبية الشباب الروس الذين التقيهم اليوم في أميركا لا يأبهون أصلاً بلينين ولا بدوره في التاريخ. ولكن هنا بالذات، في هذا النسيان أو التناسي للماضي، تكمن المعضلة. ذلك أن من الأرجح أن تكرر الشعوب التي تنسى تاريخها ذات أخطاء الماضي وممارساته البشعة المؤلمة. وهذا ما يعطي أهمية بالغة للإبقاء على رموز ذلك التاريخ مكشوفة وعارية أمام عيون الجمهور. -------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"