أثار صعود الحركات الشعبوية الجديدة، مثل "حفلة الشاي"، جدلا واسعاً لدى المراقبين والأوساط المهتمة الأميركية. لكن الأكثر إثارة للجدل من ذلك هو الصعود السياسي غير المسبوق، والذي سيتبدى بوضوح بعد انتخابات شهر نوفمبر المقبل، للشركات الأميركية وأصحاب الثروات الكبيرة في الحياة السياسية، ودورهم في تحديد نتائج الانتخابات! فعلى نحو لم نشهده من قبل، تضخ الشركات الكبرى والمستثمرون من ذوي الثروات الهائلة أموالا طائلة دفاعاً عن مصالحها الخاصة في السباقات الانتخابية. والحقيقة أن هذا الانتعاش اللافت للمال الانتخابي والتدخل السافر في تمويل الحملات الانتخابية للسياسيين المحسوبين على أحزاب بعينها تدافع عن مصالح الشركات، ناتج عن حدثين أساسيين كان لهما أثر بالغ في قلب الحياة السياسية الأميركية؛ الأول هو القرار المثير للجدل الذي أصدرته المحكمة العليا والذي بموجبه ألغت مشروع قرار كان قد رعاه الحزبان معاً في شخصي "ماكين" و"فينجولد" لتنظيم عمليات تمويل الحملات الانتخابية ومنع الشركات والاتحادات وباقي الجماعات الخاصة من أصحاب المصالح من تقديم أموال مستقلة إلى الأحزاب ومرشحيها بهدف التأثير على النتيجة النهائية للسباق الانتخابي. أما الحدث الثاني الذي كرس تدخل المال الخاص في حياتنا السياسية وتلاعبه بأصوات الناخبين من خلال التأثير والتضليل أحياناً، فيتمثل في التعديلات التي طالت القانون الضريبي والسماح بإنشاء جماعات سميت بلجان العمل السياسي يمكن للمتبرعين من خلالها أن يساهموا في تمويلها سراً دون الإعلان عن أنفسهم. ومع أنه يُفترض بتلك اللجان أن تخصص أقل من نصف أموال المتبرعين لأهداف سياسية وتوجه الباقي لأعمال خيرية، فإنه نادراً ما تتم مراجعة نشاط تلك اللجان بسبب السرية التي تحيط بها أعمالها وصعوبة تحديد المتبرعين، أو معرفة قيمة الأموال المتبرع بها. وكما أفادت بذلك صحيفة "نيويورك تايمز"، فقد أدى هذا الواقع الأميركي الذي يتيح فرصة إنفاق أموال طائلة وبسرية كاملة إلى "خلق جماعات خاصة مرخص بها تتوفر على ثروات كبيرة مستمدة من مصادر مجهولة" تنفقها على من تراه مناسباً من السياسيين والمرشحين استناداً إلى مدى انسجامهم مع مصالح المتبرعين واستعدادهم للدفاع عنها إذا وصلوا إلى سدة المسؤولية. وقد أشارت الصحيفة أيضاً إلى أن الأموال "تصرف بشكل خاص لصالح الجمهوريين"، بل إن إحدى تلك الجماعات المسماة "كروسرودز" (تقاطع الطريق)، يديرها الاستراتيجي المخضرم في الحزب الجمهوري "كارل روف" ويمولها أشخاص مجهولو الهوية. وبالإضافة إلى ذلك تعتزم غرفة التجارة الأميركية التي يسمح لها القانون بعدم الكشف عن الشركات المتبرعة المسجلة لديها، إنفاق 75 مليون دولار على الإعلانات السياسة خلال انتخابات التجديد النصفي للكونجرس، تلك الأموال مخصصة جميعها تقريباً لمرشحي الحزب الجمهوري، وهو ضعف ما أنفقته قبل عامين، كما أنه في الأسبوع الماضي فقط أنفقت غرفة التجارية عشرة ملايين دولار على الإعلانات السياسية التي تستهدف في مجملها الإطاحة بالمشرعين الديمقراطيين في الكونجرس. وفي هذا الإطار لفتت "نيويورك تايمز" الانتباه إلى جماعة من ولاية ايوا تدعى "صندوق المستقبل الأميركي" أنفقت ملايين الدولارات من متبرعين مجهولين لشراء إعلانات تهاجم المشرعين الديمقراطيين في أكثر من 13 ولاية، والسبب يكمن في أن 10 من 13 مشرعا في مجلس النواب يشاركون في لجنة من اللجان التي لها صلاحيات البت في قضايا الزراعة والطاقة. وقد ربطت الصحيفة بين أحد أكبر المتبرعين للصندوق، وهو "بروس راستير" صاحب شركة "هوكي للطاقة" وأحد أكبر منتجي الإيثانول في أميركا، وبين مواقف هؤلاء المشرعين. فالإيثانول كما هو معروف يعد واحداً من أهم مصادر الطاقة التي تدعمها الحكومة الأميركية، لكن في ظل القوانين الجديدة التي تنتظر الكونجرس القادم ربما سيتم وقف ملايين الدولارات التي تستفيد منها صناعة الإيثانول، ومن هنا يمكن فهم محاولات "صندوق المستقبل الأميركي" الهجوم على المشرعين المعارضين للدعم واستبدلاهم بآخرين محسوبين على الحزب الجمهوري يقفون إلى جانب "بروس راستير" وغيره من أصحاب شركات الطاقة. والمشكلة في مثل هذه القوانين التي أنشأت جماعات ضغط سياسية مجهولة التمويل أنها كانت في الأصل موجهة لأعمال خيرية لكنها تحولت مع مرور الوقت إلى أغراض سياسية تُكرس تدخل المال في الحياة السياسة الأميركية، والذي بدأ منذ فترة طويلة. فنحن نعرف مثلا أن المهندس الحقيقي لأول حملة انتخابية استُخدم فيها المال على نطاق واسع، هو رجل الأعمال البارع من أوهايو "مارك هانا" الذي جند وراءه أصحاب الشركات والمصالح لبناء حملة انتخابية عصرية أوصلت "ويليام ماكينلي" إلى الرئاسة في عام 1896، وذلك بفضل طريقته المبتكرة آنذاك في إدخال المال إلى الحياة السياسية الأميركية. ولعلنا نتذكر جميعاً مقولته الشهيرة: "هناك أمران مهمان في السياسة، الأول هو المال، أما الثاني فلم أعد أذكره". ومن المؤسف ألا نتذكر نحن بعد مرور كل هذا الوقت الأمر الثاني المهم في السياسة عدا المال. تيم روتين كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم. سي. تي. انترناشيونال"