قبل قرابة 40 عاماً، قضيتُ بعض الوقت مع الراحل كونر كروس أوبريان، الذي يعد أحد أكثر الصحافيين المثقفين احتراماً وتقديراً في القرن العشرين. وعلى غرار كثير من الرجال الميالين إلى الجدال بطبيعتهم من أصحاب العقول العظيمة، فإنه يخطئ ويصيب، ولكن تجربته مع العالم كانت كبيرة وكان يتميز بالعمق والحكمة، إلى حد كبير. وعلى سبيل المثال فقد شرح لي أنه يمكن تقسيم أسوأ القضايا المثيرة للجدل في العالم كله إلى "مشاكل" و"أوضاع"، مضيفاً أن الأولى لديها "حلول" والثانية لديها "نتائج". ومن بين الأوضاع التي لم يتم إيجاد أي تسويات مُرضية لها، أوضاع كانت توصف دائماً، في تلك الأيام، بـ"المستعصية": جنوب أفريقيا، حيث كان يبدو أن نظام التمييز العنصري "الأبارتايد" متجذر ومترسخ؛ وكذلك إيرلندا الشمالية، حيث كانت أعمال العنف تستعر وتخبو كما لو كانت جزءاً من دائرة طبيعية ثابتة لا تتغير، هذا طبعاً إضافة إلى قضية الشرق الأوسط. والحال أن تحليل أوبريان نشأ عما يصفه كثيرون بـ"الحكمة المأساوية". وأعتقدُ أن فهمها وإدراكها دليل على الطريق إلى النضج الثقافي، ولكن خطرها يكمن في الميل إلى خلط الواقعية بالسلبية. وبعد مشاهدة استئناف المفاوضات بين إسرائيل والفلسطينيين في واشنطن هذا الأسبوع، والاستماع إلى التعليقات -الحذرة عموماً- التي أعقبتها، تذكرت أن هذا النزاع الطويل هو الوحيد الذي لم يجد طريقه إلى الحل بعد من بين كافة الأوضاع المستعصية التي أشار إليها أوبريان. ويخبرني استئناف هذه المفاوضات اليوم أيضاً بشيء أساسي بشأن الطريقة التي يتصور بها أوباما رئاسته. ولئن كان الركود الكبير والحربان في العراق وأفغانستان هي المشاكل العويصة التي ورثها عن سلفه، فإن الأكثر إثارة للاهتمام هي المشاكل التي اختارها هو لنفسه. فعلى الصعيد الداخلي، تناول أوباما الموضوع الذي أحبط الرؤساء منذ فرانكلن روزفلت -ودفع به نحو نتيجة ما. ذلك أن السلام في الشرق الأوسط يمثل مشكلة استعصى حلها على كل الرؤساء الأميركيين منذ 1948. ثم إن معظمهم كانوا يتعاطون معها، إنْ هم فعلوا، في أواخر ولايتهم الرئاسية أو عندما يرغَمون على القيام بذلك بسبب اندلاع الحرب. ولكن اللافت هو أن أوباما قام بتعيين الزعيم السابق للأغلبية في مجلس الشيوخ جورج ميتشل كمبعوث خاص له إلى الشرق الأوسط بعد 48 ساعة على تسلمه الرئاسة. وقد مثل ذلك اختيار مهمّاً وذا دلالات كثيرة على عدة مستويات؛ ذلك أن ميتشل رعى، عندما كان ممثلا خاصا للرئيس كلينتون، الاتفاقات ووضع الإطار الذي أفضى في الأخير إلى اتفاق "الجمعة العظيمة" الذي جلب السلام إلى إيرلندا الشمالية. وقد كانت عمليةً طويلة وشاقة حيث تطلبت خليطاً من الصرامة والتصميم والصبر -وكلها أمور ستكون ضرورية إذا أريد للمفاوضات نصف الشهرية المرتقبة بين إسرائيل والزعماء الفلسطينيين أن تصل إلى اتفاق العام المقبل. والواقع أن ثمة تتابعاً تاريخيّاً مثيراً للاهتمام هنا. ذلك أن زعماء المقاتلين الجمهوريين في إيرلندا الشمالية كانوا يتعاطفون كثيراً مع الكفاح ضد "الأبارتايد" في جنوب أفريقيا. كما كان زعيم "الشين فين" جيري أدامس معجباً كثيراً بنيلسون مانديلا وتأثر بنموذجه في الكفاح. وقد ساعدت الروح التي أظهرها مانديلا تجاه الجنوب أفريقيين البيض، إلى حد لا يشاد به كفاية، في وضع الأسس لنهاية عنف يمتد 800 سنة إلى الوراء في إيرلندا الشمالية. وميتشل، إذن، رابط حي مع ما كان يبدو في يوم من الأيام حدثاً مستحيلا. ويمكن للمرء أن يرى ذلك، ويفهم أكثر الأسباب التي دفعت أوباما لاختياره، في ردوده على أسئلة الصحفيين حول عملية الشرق الأوسط. فهو، على سبيل المثال، من المستبعد أن يتخلى عن الحل الجيد من أجل حل يتصف بالكمال. ومثلما قال ميتشل لصحيفة "ذا جارديان" البريطانية، فإن اتفاقية "الجمعة العظيمة" لعام 1998، التي استغرق الإعداد لها أربع سنوات، لم تُنتج تسوية سياسية نهائية إلا في 2007. وقال ميتشل: "لقد كان اتفاقاً سياسيّاً يمثّل أفضل ما يمكن تحقيقه في ذلك الوقت"، وهو في كل الأحوال فرصة لتحقيق "السلام والاستقرار". وقد أوضح لصحافيين آخرين تساءلوا حول سبب موافقته على الجلوس إلى طاولة المفاوضات مع "الشين فين" في إيرلندا الشمالية، ولكنه يرفض ذلك مع "حماس" اليوم، موضحاً أن الجمهوريين الإيرلنديين "لم يشاركوا في المفاوضات إلا بعد مرور 16 شهراً على بدايتها، وفقط عندما قبلوا مبادئ ميتشل، التي تدعو إلى نبذ العنف، والرغبة في المشاركة من خلال الوسائل الديمقراطية، وقبول نتيجة الاتفاق وعدم السعي لتغييرها بالقوة". ويمكن القول إن لميتشل في أوباما اليوم رئيساً تحدوه الرغبة في المجازفة بنفسه في سبيل اتفاق أكثر طموحاً مما حققه كلينتون في إيرلندا الشمالية -رئيس مستعد على ما يبدو للمجازفة برصيده في سبيل أمل جريء. وبالمقابل، ولئن كان لا شيء غير الوظائف والاقتصاد هما المهمان في انتخابات 2012، فإن الرعاية الصحية وسلام الشرق الأوسط قد يمثلان شيئاً يصلح لأن تركز الحملة الانتخابية عليه، بكل المقاييس. ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ تيم روتن محلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم سي. تي. إنترناشيونال"