لا شك أن قيام صحيفة "نيويورك تايمز" وغيرها من الصحف العالمية خلال الأسبوع الماضي بنشر مقتطفات من أرشيف سري مصنف لتقارير ووثائق عن العمليات العسكرية الأميركية الجارية في أفغانستان لمدة ست سنوات، يثير عدداً من الأسئلة المحرضة عن مدى الالتزام الأخلاقي للمؤسسات الصحفية الإخبارية في عصرنا الرقمي. فعشرات الآلاف من التقارير التي حواها الأرشيف تقدم معلومات موثقة عما يجري عسكرياً على الأرض خلال الفترة الممتدة من عام 2004 إلى 2009. وخلافاً للتقارير والوثائق المنسوبة إلى البنتاجون -التي قورنت بها عن طريق الخطأ- فقد كشفت التقارير الأخيرة المنشورة بالتزامن في كل من صحيفة "نيويورك تايمز" الأميركية، و"الجارديان" اللندنية، ومجلة "دير شبيجل" الألمانية عن أنها لا تشير إلى أي نمط منتظم من الخداع الحكومي. وقد توافرت المؤسسات الصحفية الثلاث المذكورة على نسخة إلكترونية من هذه التقارير والوثائق قبل شهر كامل سابق للنشر، عن طريق منظمة إلكترونية تسمى WikiLeaks طالبت الصحف المذكورة بالالتزام بعد نشر التقارير حتى يوم الأحد الماضي، كي تتمكن هي -المنظمة الإلكترونية- من نشر الوثائق الكاملة عبر موقعها الإلكتروني. وهذا ما يثير السؤال الأخلاقي عن مدى وحدود العمل الصحفي. فوفقاً لملحوظة نشرت يوم الاثنين الماضي مصاحبة للقصص والمقتطفات المنشورة عن الوثائق، اعترفت "نيويورك تايمز" بعدم علمها بالمصادر التي حصلت منها منظمة "ويكيليكس" على التقارير العسكرية السرية. ومن ناحيته رفض "جوليان أسانيج"، مؤسس الموقع الإلكتروني للمنظمة -وهو قرصان كمبيوتر أسترالي سبق له أن أدين قضائياً- الإدلاء بأي معلومات ربما تجهلها منظمته. غير أنه يبقى من الغريب جداً على مؤسسة صحفية عملاقة مثل "نيويورك تايمز" أن تنشر معلومات بهذه الحساسية والخطورة دون أن تدري حقيقةَ مصدرها. في الوقت نفسه، نحن لا ندري شيئاً عمن هم وراء منظمة "ويكيليكس"، وما هي أجندتهم، فيما عدا كراهيتهم الواضحة للسرية. وكانت صحيفة "نيويورك تايمز" قد مضت شوطاً بعيداً في التحقق من صحة المعلومات المتسربة التي نشرتها. ووفقاً لـ"دين باكيت" رئيس تحرير مكتب الصحيفة بواشنطن، فقد أعادت الصحيفة فحص تلك المعلومات مع البيت الأبيض نفسه. وأشارت الملحوظة المصاحبة التي نشرتها الصحيفة مع المقتطفات إلى أن المعلومات المنشورة تحمل علامة تشير إلى عدم ترجيح تسببها في تعريض أي أرواح أو عمليات عسكرية مضادة للإرهاب للخطر. كما واجهت الصحيفة صعوبة كبيرة في التوضيح لقرائها أن المعلومات المنشورة لا صلة لها بأصل الأرشيف الإلكتروني، الذي بثته منظمة "ويكيليكس". ولكن لم يكن ذلك مقنعاً للقراء الذين سارع الكثيرون منهم إلى زيارة الموقع الذي يرجح اقتباس الصحيفة من أصل الأرشيف الموجود فيه. ولكن يظل من الضروري والمفيد فيما لو علمنا عن أفراد طاقم الصحيفة الذين شاركوا في الحوار الداخلي، الذي سمح بنشر معلومات رسمية بكل هذه الحساسية والأهمية فيما يتعلق بتقييم سير العمل العسكري الجاري في أفغانستان. ومن بين الأسئلة المهمة التي لا بد من إثارتها: هل كانت هناك أي تحفظات إزاء التعامل مع منظمة "ويكيليكس"؟ ومن هم الذين يقفون خلف المنظمة؟ ما هي أجندتهم وأهدافهم؟ ثم هل هناك أي رغبة عامة في معرفة أعضاء هذه المنظمة، مثلما هي الرغبة العامة الواضحة في معرفة مسار الحرب الأفغانية؟ والحقيقة أن المنظمة الإلكترونية المذكورة قد ظفرت من كل هذا بقدر كبير من المصداقية الصحفية، ما يدفع الكثير من المؤسسات الصحفية إلى التعامل معها، بصرف النظر عما تكون المنظمة، ومن هم الذين يعملون من خلف كواليسها. وعلى رغم أن صحيفة "التايمز" قد تعاملت معها بحذر واضح لا يغيب عن أحد، فلن تتوافر ضمانات كافية لالتزام بقية المؤسسات الصحفية بالقدر ذاته من الحذر في التعامل والتعاون مع "ويكيليكس". وللصراحة فإن الأمر كله يشي بالنسبة لي بشيء من التسريب المعلوماتي الاستخباراتي. وإن كانت ثمة منظمة فصّلت مهامها وعملياتها على "غسل" المعلومات السرية للمؤسسات والوكالات الاستخباراتية، فهي لا شك منظمة مثل "ويكيليكس" هذه. ويبقى أخيراً السؤال المتعلق بالمصدر الحقيقي للمعلومات المتسربة عن الحرب الأفغانية، ما هي هوياتهم؟ وما الذي يعنيه ذلك مستقبلاً؟ في الإجابة عن هذه الأسئلة يذكر أن "وول ستريت جورنال" ذكرت في التقرير الذي نشرته يوم الثلاثاء الماضي أن المحققين العسكريين بدأوا فحص أجهزة الكمبيوتر التي استخدمها "برادلي ماننج"، محلل استخباراتي عسكري مقيم في العراق. وكان "ماننج" قد اتهم خلال الشهر الماضي بالحصول غير المشروع على معلومات وشرائط فيديو تابعة لوزارة الخارجية، لها صلة بحادثة وقعت في عام 2007، قتلت فيها إحدى طائرات الأباتشي العسكرية العمودية اثنين من صحفيي وكالة رويترز وغيرهما من المدنيين. وكانت نسخة ممنتجة من ذلك الشريط قد بثت عبر موقع منظمة "ويكيليكس" تحت عنوان "القتل الجانبي" في شهر أبريل الماضي. قيل ذات مرة إن جنود الإمبراطور نابليون كانوا من الطموح إلى درجة كان كل واحد من المخبرين العسكريين السريين يحمل شارة رتبة مارشال عسكري في حقيبة ظهره. واليوم يزداد الخوف من أن يحمل كل مخبر عسكري سري في جيشنا جهاز "لابتوب" في حقيبته، ويفعل به ما يشاء. فأن يتمكن مخبر عسكري في سن الثانية والعشرين من الحصول على هذا الكم الهائل من المعلومات العسكرية السرية المصنفة، أمر مثير للاهتمام بالفعل. فمنذ أن ألقيت المسؤولية عن الفشل الذي فتح الطريق أمام هجمات 11 سبتمبر على الأجهزة الاستخباراتية الأميركية، تواصلت الجهود الرامية لإنشاء هياكل وإجراءات من شأنها توحيد عملية جمع المعلومات وتسريع تبادلها بأقصى ما يمكن. وفي تلك الجهود ما يستحق الثناء والاستحسان، غير أن فيها ما يعرض المعلومات الاستخباراتية إلى خطر جم. وفيما لو أدت استجابة الإدارة لهذه التسريبات الصحفية الأخيرة إلى إعادة حوسبة المعلومات الاستخباراتية مع تضييق نطاق تبادلها إلى أقصى حد ممكن، لكانت "نيويورك تايمز" قد تحملت عواقب وخيمة بنشرها للتقارير الأفغانية هذه. عندها تكون الصحيفة قد تسببت بضرر بالغ للانفتاح الحكومي من جهة، وبالمساس بالأمن القومي من جهة أخرى. ------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "إم سي تي إنترناشيونال"