قبل أيّام، أعلنت كوريا الشماليّة أنّها لن تتردّد في استخدام سلاح "ردعها النوويّ" ردّاً على التمارين العسكريّة الأميركيّة- الكوريّة الجنوبيّة المشتركة، والأضخم منذ سنوات مديدة، التي ما لبثت أن بدأت فعلاً. أبعد من هذا، وصفت بيونج يانج ردّها الموعود بأنّه سيكون "حرباً انتقاميّة مقدّسة" تُعلن في أيّ وقت، فيما كانت واشنطن وسيئول تعلنان، من جهتهما، أنّ الهدف من تجربتهما البحريّة الجديدة هو الاستعداد لردع "أيّ عدوان كوريّ شماليّ". سبق هذا التصعيدَ بين الكوريّتين ما كان قد حصل في مارس الماضي، حين اتُّهم الشماليّون بإغراق سفينة حربيّة جنوبيّة عبر طوربيد، وهي النتيجة التي صادق عليها تحقيق دوليّ. وبسبب الغموض الذي يعتري الوضع الكوريّ الشماليّ، وما يجري في الدائرة السلطويّة الضيّقة، راجت تحليلات غربيّة تقول إنّ إغراق السفينة الجنوبيّة تحوّل سبباً بارزاً من أسباب الصراع بين أطراف النظام في بيونج يانج، كما صار حجّة عند بعض الأجنحة لتحميل المسؤوليّة لأجنحة منافسة أخرى. قصارى القول إنّنا قد نكون حيال أزمة دوليّة كبرى مرشّحة لأن تُضاف إلى التوتّر المحدق بالملفّ النوويّ الإيرانيّ وبالحرب المستمرّة في أفغانستان وجزئيّاً في العراق. بيد أنّ الانطباع هذا لا يلغي عدداً من التحفّظات والاستدراكات المفيدة: ففي جوابه عن تهديدات بيونج يانج، قال فيليب كراولي، الناطق بلسان الخارجيّة الأميركيّة، إنّ واشنطن لن تنجرّ "إلى حرب الكلمات التي تخوضها كوريا الشماليّة"، مضيفاً: "ما نحتاجه من كوريا الشماليّة كلماتٌ استفزازيّة أقلّ وأعمال بنّاءة أكثر". وما يعزّز الافتراض التخفيفيّ الذي يرى في المسألة مجرّد "حرب كلمات" هو كون كوريا الشماليّة قد أصدرت مراراً من قبل تهديدات كهذه، تهديداتٍ من النوع الذي يدفع الأمور إلى حافّة الهاوية قبل أن يبدأ العدّ العكسيّ والإقرار بواقع جديد قائم. وهنا ثمّة من يعوّل على نجاح يحرزه الدور الصينيّ الذي ربّما كان مدعوماً بموقف روسيّ مشابه: ذاك أنّ بكين تتصرّف كما لو أنّها تهدّئ الكوريّين الشماليّين وتمتصّ غضبهم مقابل مطالبتها الأميركيّين والكوريّين الجنوبيّين بعدم الذهاب بعيداً في استفزازهم. فالشمال، كما هو معروف، يعيش في عزلة مُحكمة، والشماليّون يعانون ضائقتين متلازمتين، دبلوماسيّة واقتصاديّة، ما يرشّحهم، في أيّة لحظة، لسلوك طريق التصعيد غير المحسوب. ثمّ إنّ الصين لا تملك كماليّات الصمت والتفرّج حيال ما قد يجري في جوارها المأزوم: فهي تخشى أن ينهار الوضع في كوريا الشماليّة بما يؤدّي إلى لجوء أعداد ضخمة من الكوريّين الشماليّين إلى أرضها، فضلاً عن انتشار الفوضى والاحتراب في المناطق الحدوديّة في حال تفكّك الجيش. أمّا في الغرب فهناك مدرستان تحليليّتان في ما خصّ كوريا الشماليّة: الأولى تنطلق من أنّ الحاكم "كيم يونغ إيل" ربّما كان يفقد قبضته على السلطة، وأنّ هذا الوضع إنّما فجّر صراعاً بين قوى السلطة الشيوعيّة هناك، بحيث انشقّ أو أُبعد بعض القادة الذين خسروا المنافسة. وفي هذا السياق، ربما يعبّر التصعيد والمزايدة في الموضوع الخارجيّ عن محنة الوضع الداخليّ وعن محاولة صرف الأنظار عنه. أمّا المدرسة الثانية فتؤكّد أنّ السلالة الحاكمة مضمونة وآمنة، إلاّ أنّ ما تفعله محكوم بصرف الأنظار تحديداً عن الفشل الاقتصاديّ الذريع. وهنا يناط بالتصعيد أن يمهّد لافتتاح حوار جديد مع الولايات المتّحدة الأميركيّة والبلدان الغربيّة يصار معه إلى تجديد الحصول على المعونات التي سبق أن توقّفت. وهكذا تكون وظيفة الحرب المحدودة التي يُفترض أن تُنزل هزيمة محقّقة بكوريا الجنوبيّة، إخراج كوريا الشماليّة ممّا يقرب المجاعة الشاملة. وفي الحالات كافّة فإن الحزب الشيوعيّ الحاكم في بيونج يانج سيعقد، في سبتمبر المقبل أوّل مؤتمراته منذ ثلاثين سنة، بقصد تجديد دمائه القياديّة وانتخاب جيل جديد. والمعروف أنّ مؤتمر 1980 هو الذي تولّى عمليّاً توريث "كيم يونغ إيل" لأبيه، مؤسّس النظام الشيوعيّ "كيم إيل سونغ"، وذلك قبل 14 عاماً على وفاة الأب. ويُتوقّع أن يؤدّي هذا المؤتمر العتيد إلى كشف بعض الغوامض والمجهولات التي تكتنف الوضع الخطير واحتمالاته. والحال أنّ هذه السرّيّة وهذا العجز عن تأليف صورة حقيقيّة عمّا يجري باتا من مواصفات الأنظمة العقائديّة المغلقة التي يظلّ النظام الكوريّ الشماليّ أشدّها إغلاقاً. إلاّ أنّ ما يزيد البؤس أنّ حروباً قد تنفجر بسبب تلك التركيبة، وأنّ بشراً قد يموتون، وأنّ ثروات هائلة قد تُبدّد. وحين تقترب الكارثة يقترب الكذب معها: هكذا تغدو "المؤامرة على كوريا الشماليّة" هي أداة التفسير المعتمدة، فيما يسود التواطؤ الواسع على حقائق في عدادها: - أنّ النظام جوّع شعبه وعزله عن العالم وحكّم برقابه أجهزة الاستخبارات العسكريّة والحزبيّة. - أنّ نظام كوريا الشماليّة كان أوّل نظام جمهوريّ- شيوعيّ يجعل من التوريث طريقة في تداول السلطة. - أنّ السرّيّة وحجب المعلومات، في زمن انتشار المعلومات وشيوعها، صارا من أبلغ البراهين على الاستبداد. لقد قرّرت كوبا، وهي أيضاً محكومة بنظام جمهوريّ- شيوعيّ، أن تحذو حذو كوريا الشماليّة. هكذا حلّ عمليّاً راؤول كاسترو محلّ شقيقه الأكبر فيديل في الوقوف على رأس السلطة في هافانا، على أن يرثه رسميّاً وكلّيّاً حال وفاته. ولكنّ هذا التقليد الكوبيّ للكوريّين الشماليّين لا يحول دون طرح السؤال المتزايد الإلحاح في ظلّ تعاظم المخاطر التي ترتّبها أوضاع كهذه: إلى متى ستعيش أنظمة من هذا النوع، وإلى متى ستُحمل شعوبها على تحمّلها؟ فبعد خمس وستين سنة على سقوط الفاشيّة والنازيّة، وبعد عشرين عاماً على سقوط الشيوعيّة في أوروبا الوسطى والشرقيّة، ربما صار من القاهر أن تمتدّ هذه الوجهة إلى بلدان "الأطراف" في "العالم الثالث". فمتى يكون ذلك؟