بتعيين القطرية الشيخة مها منصور سلمان جاسم آل ثاني في منصب قضائي في دولة قطر، تكون ثالث خليجية تتولى القضاء في دول مجلس التعاون الخليجي. فقد أدت السيدة القطرية اليمين القانونية أمام رئيس المجلس الأعلى للقضاء -هذا الأسبوع- بعد تعيينها بوظيفة "مساعد قاض" في المحاكم القطرية، وبذلك تكون دولة قطر هي الثالثة خليجياً والرابعة عشرة عربياً التي تعين النساء في مناصب قضائية. وكانت البحرينية منى جاسم الكواري أول قاضية في تاريخ الخليج كله وصدر قرار تعيينها في يونيو 2006، ثم تلتها الإماراتية خلود أحمد جوعان الظاهري لتكون أول قاضية إماراتية في مارس 2008. تاريخياً وعلى امتداد 14 قرناً كان منصب القضاء حكراً على الرجال وحدهم في كافة المجتمعات العربية والإسلامية، وكان أشبه بالحصن المنيع الذي لا يجوز للمرأة أن تفكر في الاقتراب منه فضلاً عن اقتحامه، وتحصّن هذا الوضع بتراث فقهي ضخم، دعمته أحاديث منسوبة إلى الرسول صلى الله عليه وسلم تحذر من تولية المرأة أية ولاية عامة -والقضاء ولاية عامة- وتجعل من تولية المرأة منصباً عاماً أمراً محفوفاً بعدم الفلاح والخسران. كما ساند هذا الوضع إجماع فقهي على تحريم ولاية القضاء بالنسبة للمرأة، وترّسخ هذا الوضع ليصبح قناعة مجتمعية وجزءاً من الموروثات الثقافية والاجتماعية عبر الأجيال المختلفة والتي لا يجوز الجدل بشأنها وإلا اعتبر خرقاً للثوابت الدينية، واستمر الوضع هكذا قروناً متوالية ولكن لأن التغيير سنة الحياة ولأن الشريعة من سماتها التكيف مع احتياجات المجتمعات ولأن إسلامنا دين خالد ولأن الله عز وجل قال في محكم كتابه: "فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض"، ولأنه تعالى قال: "ولقد كرّمنا بني آدم"، ومن مقتضيات التكريم الإلهي: تساوي الحقوق والواجبات بين الجنسين، لكل هذه الحيثيات قام علماء دين مستنيرون وعلى رأسهم الشيخ سيد طنطاوي رحمه الله بإحقاق الحق وقول كلمة الإنصاف، فصرّح رحمه الله قائلاً: "إن الشريعة الإسلامية لا تفرق بين الرجل والمرأة في تولي المناصب، بما فيها القضاء، لأنه لا توجد نصوص قطعية تمنعها من العمل قاضية، بل أتاحت لها الشريعة الإسلامية مباشرة جميع الحقوق السياسية والمشاركة في كل ما يخص الصالح العام". نعم لا يمكن لدين يتسم بالخلود وقد جاء لإنصاف المظلوم ورفع شأن المهمش وتحقيق العدالة بين الناس، أن يحرم المرأة المسلمة من حق طبيعي تمارسه كل نساء الأرض، لماذا تكون المرأة العربية وحدها مستبعدة عن العمل القضائي؟! بفضل تلك الآراء المستنيرة وغيرها اقتحمت المرأة العربية القضاء وأصبحت تمارسه اليوم في معظم الدول العربية، وهناك ما يقرب من عشرة آلاف قاضية عربية وتكاد دول شمال أفريقيا تستحوذ على النسبة الكبرى منهن ولا أحد يشتكي في هذه الدول من أن المرأة عاطفية لا تحسن القضاء وهي أسطورة يرددها الدعاة المناهضون لقضاء المرأة ومنهم رجال قانون وصلوا إلى درجة المستشارية. أنظر على سبيل المثال ما حصل مؤخراً في مصر إذ اجتمعت الجمعية العمومية لمستشاري مجلس الدولة المصري ليناقشوا مدى أحقية المرأة بتولي منصب القضاء، والمفاجأة الغريبة أنه من أصل 380 قاضياً حضروا الاجتماع، صوّت 334 منهم ضد تعيين المرأة قاضية. هذا يحصل في مصر أم الانفتاح الاجتماعي والعراقة في المساواة بين الجنسين، عراقة تصل إلى قرن كامل، تأمل هذا الحدث الغريب وقارنه بما قرره إمام عظيم قبل ألف عام، هو الإمام ابن حزم إذ يقول في موسوعته الضخمة: "وجائز أن تلي المرأة الحكم -القضاء- فإن قيل قد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة، قلنا: ذلك في الأمر العام الذي هو الخلافة". قارن هذا الكلام النفيس في شأن المرأة بموقف سدنة القانون في عصرنا الذين لا يرون المرأة أهلاً لمنصب القضاء! واليوم تخطو قطر خطوة تاريخية بفتح الباب أمام المرأة القطرية لتولي مناصب قضائية. لكن دعونا نتساءل: ما أهمية وما دلالات هذا الحدث على مستوى المجتمع القطري والخليجي؟ أولاً: تأتي هذه الخطوة القطرية وفي هذا الشهر الذي يحتفل فيه العالم بإنجازات المرأة، تقديراً لجهود المرأة القطرية ونجاحاتها في مختلف المجالات التنموية في المجتمع. ثانياً: تُعد هذه الخطوة تتويجاً لسلسلة من الخطوات المتدرجة والمحكومة بضوابط شرعية ومجتمعية نحو تعزيز حقوق المرأة، بدأتها القيادة السياسية على امتداد السنوات العشر الماضية، إذ شهد المجتمع القطري سلسلة من الإصلاحات الاجتماعية الهادفة إلى تمكين المرأة من ممارسة دورها التنموي الفاعل، وكان من إنجازاتها إنشاء المجلس الأعلى للأسرة برئاسة الشيخة موزة بنت ناصر المسند حرم أمير قطر، وصدور قانون الأسرة في 2006، ووصول أول امرأة خليجية إلى منصب وزيرة للتربية، وتعيين أول عميدة لكلية الشريعة الدكتورة عائشة المنّاعي التي أصبحت أول امرأة تغزو عقر دار المشايخ وتصبح عميدة عليهم وذلك على مستوى العالم الإسلامي كله. ثالثاً: تعيين قاضية في قطر، حدث استثنائي إذا راعينا أمرين: أنه قبل 10 سنوات كان المجتمع يستنكر قيادة القطرية للسيارة فكيف بالقضاء! وأن مسيرة الإصلاح الاجتماعي هي فترة قصيرة في المجتمع القطري، بل كان الإصلاح حلماً بعيد المنال وها هو يتحقق سريعاً. رابعاً: أن "الفكر السلفي" لا زالت له هيمنته على المؤسسات الدينية والقضائية وله رجاله كما أن له تأثيراته الفاعلة على الثقافة المجتمعية، وهو فكر لا يرى أهلية المرأة للعمل خارج المنزل. وكون المرأة القطرية تتولى منصباً قضائياً اليوم فذلك يعد حدثاً تاريخياً وغزوا لهذا الفكر المهيمن، وقد يكون تعيين امرأة في أي مجتمع آخر حدثاً عادياً، لكنه في المجتمع القطري هو حدث استثنائي لم يكن ليتحقق لولا استنارة القيادة السياسية وتقدمها وتجاوزها للموروثات الاجتماعية المعوقة للتقدم.