ينتاب اليمنيين كثير من القلق حول الغرض من الدعوة إلى مؤتمر خاص ببلادهم يُعقد في لندن آخر الأسبوع الجاري، ولكن هذا القلق سرعان ما يتلاشى إن أمعنوا النظر في التصريحات المتضاربة لحكومة اليمن حول مكافحة الإرهاب، وذكرها أسماء للقتلى من "القاعدة"، والحوثيين، من دون تقديم أية أدلة مادية تثبت هوية تلك الجثث، ما جعل المتحاربين معها يظهرون ما يؤكد عدم دقة المعلومات الحكومية. قدم المانحون الدوليون وفي مقدمتهم دول مجلس التعاون الخليجي في مؤتمر لندن ذي الصلة باليمن عام 2006 أموالًا لدعم التنمية فيه، ولكن المحصلة ما نراه اليوم من إثبات اليمن عدم قدرته على إدارة التنمية، وإعادة التكرار لذرائع قلة الأموال. تستعد الدول المشاركة في مؤتمر لندن هذا الأسبوع لمناقشة أوضاع اليمن وما آلت إليه، رغم أن اليمنيين سيشاركون وهم يرون أن أوضاعهم "تُدول" عبر هذا المؤتمر، ولن يلاموا على ذلك، ولكن أمورهم خرجت عن سيطرتهم، فمن يُراقص الثعابين لا بد أن يذُوق طعم لدغاتها! لكن المهم من وجهة نظري هي الحرب على الفكر بالفكر، وليست بالعمل العسكري المباشر، وتأتي هذه الخطوة من خلال السعي الجاد والحثيث لعمل دولي جماعي على قاعدة "الأفعال لا الأقوال"لإسقاط المبررات والذرائع التي يقوم عليها الفكر المتطرف في العالم الإسلامي، مثل القضية الفلسطينية، والنزاع العربي- الإسرائيلي، فلو سقطت هذه الورقة لانحسرت موجة الاستقطاب للفكر الإرهابي في العالم الإسلامي، لدرجة التلاشي لعدم وجود مبررات لحياته يستثمرها المتطرفون. يترعرع مفكرو تنظيم "القاعدة" ومنظروه في الغالب على أراض أوروبية سمحت قوانينها بوجودهم عليها واستخدام جنسياتها من قبل بعضهم، وربما أنها مكافئة لبعضهم لما قاموا به من أعمال في مراحل سابقة من الزمن، كما هو الحال مع من استطاعوا تجنيد النيجيري عمر فاروق عبد المطلب أثناء دراسته بين عامي 2005 و 2008!، وكأنما العملية هي وضع بذور في حاضنات أوروبية، وعندما تخصب يرمى بها في بلدان المسلمين لاستثمار وجودها ضدهم لمصلحة من رعاها! للعمل العسكري الأميركي أو الدولي المباشر في اليمن مخاطر أكبر من المكاسب المرجوة منه، حيث أن البيئة اليمنية مشابهة لتلك التي في أفغانستان من حيث الجغرافيا ووعورة التضاريس المساعدة على استخدامها مقرات آمنة ومخابئ من قبل "القاعدة"، أو الخلفية الثقافية للسكان التي تعتمد التشدد الديني منهجا لها، وهذه تساعد على التفاعل مع منهج "القاعدة"، والوقوف في صفوفه، ودعم مقاتليه إن دعا الأمر ذلك. الخطورة الأكبر في اليمن هي قربها من الأماكن المقدسة في السعودية البلد المجاور، وما تعنيه هذه الأماكن بالنسبة للمسلمين في كافة أرجاء العالم، فأي تواجد عسكري أجنبي في اليمن يعتبر في نظر البسطاء من كافة المسلمين تهديدا كبيرا لأمن أماكنهم المقدسة، ومن هنا تأتي الخطورة الأكبر على الأمن العالمي لو فتح هذا المرجل الأكثر جحيماً، لأن "القاعدة" ستستثمره لصالحها في استقطاب الأعوان! إضافة إلى ذلك يخلق التدخل العسكري الأجنبي في اليمن أجواء مشابهة للأجواء السائدة في أفغانستان الآن، وما تشكله هذه الأجواء من خطورة، فتنظيم "القاعدة" كالبكتيريا لا تعيش إلا في أجواء غير صحية، وإن وجدت الأجواء غير الآمنه الملائمة لنموها أكثر مما هو حاصل الآن في اليمن لزاد حجمها وتضخمت بشكل أكبر، ويعتبر ذلك بمثابة إطلاق ناقوس الخطر وقرب التهديد بشكل أكثر جدية لمكامن الطاقة التي تشكل شريان حياة للعالم أجمع، وهي على مرمى حجر من اليمن. تنظيم "القاعدة" يتمنى مثل هذا التدخل الذي يفتح على العالم "صندوق باندورا"، لكي تستطيع إعادة صفوفها، وتنمية قدراتها بشكل أكبر، وابتكار كل ما هو جديد في عالم الشر، فلا يجب أن تتحقق لها هذه الأمنية التي تعتبر لهم بمثابة هدية العام الجديد وينتظرونها بفارغ الصبر. لن تستطيع أميركا عزل نفسها عن العالم بتوثيق أسماء تتزايد على قائمة موسعة للممنوعين من دخول أراضيها، فمن السهل في أغلب دول العالم الثالث الحصول على جواز سفر جديد وباسم غير ذلك المدرج على قوائم المنع الأميركية. ما رأيناه الأيام الماضية في مقطع فيديو بثته المواقع الإلكترونية التابعة لتنظيم "القاعدة" لأحد قيادييها، وهو "قاسم الريمي" أثناء استعراضه مع عدد من مسؤولي الحراك الجنوبي في محافظة أبين جنوب اليمن، ويظهر فيه "الريمي" محاطاً بعدد من الأطفال الذين يحملون البنادق الرشاشة. يوحي هذا المشهد بأن هؤلاء الأغرار انخرطوا في العمل مع "القاعدة"، لأسباب مادية فقط وليست أيديولوجية، كما يعتقد البعض، فحداثة أسنان هؤلاء الأطفال لا تشير إلى أنهم يدركون الأبعاد الأيديولوجية التي يلعب عليها ويستغلها منظرو الإرهاب في العالم لاستقطاب الأتباع وتهييج مشاعر المؤيدين. ينقص اليمن مشاريع كثيرة في البنية التحتية والتنموية المهمة لكل مواطنيه الذين يعاني غالبيتهم من الفقر، ولا تستطيع الحكومة اليمنية تحقيق ذلك وحدها، ولن تستطيع دول منفردة القيام بذلك إلى جانب الحكومة اليمنية، فما يريده اليمن هو مشروع مارشال آخر خاص به، وهذا ما ننتظر أن يُبادر به على شكل حزمة مساعدات استراتيجية، ويتم طرحه على طاولة المجتمعين في مؤتمر لندن، الذي دعت بريطانيا لانعقاده آخر الشهر الجاري، ويجب تنفيذ قرارات هذا المؤتمر من قبل لجنة دولية تابعة لأعضاء المؤتمر، وأن لا يوكل التنفيذ للحكومة اليمنية. يجب النظر لما يحدث في اليمن من منظور استراتيجي يقوم على التخطيط له وتنفيذه من قبل المجتمع الدولي كاملاً وبالإجماع، وليست مجرد خطوات تكتيكية، يوكل العمل عليها لجهود دولة بعينها، فلن تجدي هذه الخطوة نفعاً. ومن المجدي أكثر أن لا يكون هناك من هم مجرد ريبوتات تعمل بعيداً عن الواقعية التي تفرضها ثقافة الأرض المستهدفة، ويجب أيضاً الأخذ بآراء الحكماء في المنطقة والحلفاء الموثوقين، الذين يقدمون النصح دائماً لحلفائهم، وبمخالفة نصائحهم كما هي حال الإدارة الأميركية السابقة ارتكبت أميركا أخطاء فادحة شوهت صورتها في العالم الإسلامي، ويجب أن لا تتكرر هذه الأخطاء.