خلال الجزء الأكبر من القرن العشرين، ظلت أفغانستان دولة مسالمة وتعيش في انسجام تام مع الدول المجاورة لها، قبل الغزو السوفييتي في عام 1979. وكان هناك في عاصمتها كابول ملك وحكومة فعلية، أستطيع أن أشهد على وجودها شخصياً من خلال زياراتي المتكررة لأفغانستان في سبعينيات القرن الماضي. وبالمقارنة إلى الهياكل الحكومية المتضخمة التي تركها الاستعمار البريطاني في الهند والاحتلال السوفييتي لآسيا الوسطى، يمكن القول إن حكومة أفغانستان كانت محدودة صغيرة الحجم نسبياً. وقد أدت تلك الهياكل الحكومية الأساسية المحدودة دورها على أحسن ما يكون في تلبية الحاجات الأساسية لمجتمع فقير وصغير من حيث الكثافة السكانية. كما تتسم أفغانستان بتوفر القليل من الموارد الطبيعية المستغلة والموزعة بين مجموعات عرقية قبلية متباينة، لا تربط بينها روابط قوية بسبب طبيعة تضاريس الدولة نفسها. وكانت حكومة كابول في ذلك الوقت تمثل مركزاً قوياً بما يكفي لفرض القانون والنظام، غير أنها لم تكن يوماً من القوة التي مكنتها من كسر شوكة القبائل وتقويض الاستقلالية الذاتية التي تمتعت بها دائماً. ولم تكن أفغانستان تطمح يوماً لأن تصبح دولة حديثة أو قوة إقليمية كبرى في المنطقة. وكان اقتصادها معيشياً، غير أنه ينتج من المواد الغذائية ما يكفي حاجة جميع السكان. وكانت فرص العمل متوفرة للجميع، على رغم عدم انتظام النشاط الزراعي. صحيح أن لأفغانستان في ذلك الوقت طبقة وسطى محدودة تعيش في المدن، إلا إن الفجوة الاجتماعية لم تكن كبيرة جداً مثلما هي اليوم. وحينها لم يكن ثمة وجود لظاهرة التطرف الإسلامي، ولا أدنى وجود لما يسمى اليوم بدولة المخدرات. وفيما أذكر، فقد أمضيت فترة طويلة من الوقت في واشنطن في عام 2002، في محاولة مني لإقناع إدارة بوش بتكريس جهودها لإعادة بناء الدولة الأفغانية التي دمرتها حروب الثلاثين عاماً الماضية، وحولتها إلى حطام. حينها قدّر عدد من الخبراء -الذين يعمل كثير منهم الآن مع ريتشارد هولبروك، مبعوث إدارة أوباما الخاص لكل من أفغانستان وباكستان- أن إعادة بناء الدولة الأفغانية يتطلب توفير مبلغ خمسة مليارات دولار سنوياً لمدة عشر سنوات. ومن رأيهم أنه سيكون في الإمكان بناء الهياكل الأساسية لدولة أفغانية محدودة، لكنها قادرة على التصدي لأي خطر ربما يمثله تنظيم "القاعدة" وحليفته حركة "طالبان". وكانت تلك الخطة قد تمحورت حول تكثيف الاستثمار في القطاع الزراعي، حيث تتوفر غالبية الوظائف، إلى جانب تعبيد الطرق وبناء الجسور، حتى يمكن إعادة ربط المدن الرئيسية بالضواحي الحدودية النائية، وذلك بهدف تأمين النمو الاستثماري. كما ركزت تلك الخطة أيضاً على بناء قوات الشرطة والجيش الوطنيين. إلى ذلك كانت أفغانستان بحاجة إلى بناء نظام حكم حديث، وبرامج تعليمية صحية تشمل جميع السكان، إضافة لحاجتها إلى نظام قضائي فاعل. ولكننا جميعاً نعلم ما حدث بالفعل. فقد تخلت إدارة بوش عن أفغانستان، ولم توفر لها من الموارد المالية ما يكفي لتطبيق تلك الخطط والبرامج. بل غادرت الإدارة أفغانستان كلها لتفتح لها جبهة حرب جديدة في العراق. وهكذا سقطت أفغانستان بيد عملاء "السي. آي. إيه" ولوردات الحرب. وحين أدركت حركة "طالبان" وتنظيم "القاعدة" عدم جدية إدارة بوش إزاء أفغانستان، فقد وجد مقاتلوها وعناصرها أن من السهل عليهم العودة إلى حيث كانوا. وكما نعلم فقد بدأ التمرد "الطالباني" في صيف عام 2003، حين تمكنت الحركة من الاستيلاء على أجزاء واسعة من البلاد، واستغلت الأموال التي تدرها عليها تجارة المخدرات في تحسين تسليح مقاتليها وتكتيكاتها القتالية، إلى حد أرغم رئيس هيئة الأركان المشتركة، الأدميرال "مايك مولين" على الاعتراف مؤخراً بخطورة الوضع وتدهوره في أفغانستان. وبالنتيجة، فإن أي جهد يهدف إلى تنفيذ ما كان قد رآه الخبراء لإعادة بناء الدولة الأفغانية بحيث تكون دولة قادرة فاعلة، سوف يكلف ما لا يقل عن 10 مليارات دولار سنوياً، إضافة إلى ما يتطلبه من نشر عشرات الآلاف من الجنود الغربيين، وهذا ما لا تغامر أي دولة غربية بالخوض فيه أو قبوله. كما يرجح أن يطالب الجنرال "ستانلي إيه. ماكريستال"، القائد العام للقوات الأميركية في أفغانستان، بإرسال المزيد من القوات إلى الساحة الأفغانية. لكن المؤكد أنه لن يحصل على الزيادة التي يطلبها. وبسبب الخلافات الدائرة في واشنطن الآن حول الحرب الأفغانية كلها ومدى جدواها، وما إذا كانت استراتيجية الرئيس أوباما الخاصة بها سوف تحقق أهدافها، فقد ساد الاعتقاد لدى الكثير من المحللين السياسيين من منتقدي إدارة أوباما، بأنه حان الوقت لأن يترك الأفغان لتدبر شؤونهم بأنفسهم. ولكن قبل أن يعترف هؤلاء بحقيقة أن إخفاقات إدارة بوش السابقة في أفغانستان هي التي أوصلتنا إلى المأزق الذي نحن فيه الآن، فما العمل؟ من رأيي أن هناك أربع خطوات لا بد من اتخاذها للخروج من هذا المأزق. تبدأ أولاها بأن تدرك شعوب أميركا وأوروبا حقيقة ما حدث هناك: فشل الحكومات الغربية في الجهود التي بذلتها طوال السنوات الثماني الماضية في إعادة بناء أفغانستان، وتحقيق الاستقرار الأمني فيها. ولا بد للحكومات الغربية أن تقول الحقيقة كاملة لشعوبها الآتي: لقد عجزنا عن بناء الحد الأدنى من الدولة التي طمحنا إليها في أفغانستان. فالخدمات الكهربائية لم تنتظم في العاصمة كابول إلا خلال العام الحالي، وذلك على رغم إنفاق مليارات الدولارات المقدمة من المجتمع الدولي لأفغانستان في شكل مساعدات إنسانية تنموية. وفي الوقت نفسه تزايد خطر الإرهاب والتمرد "الطالباني"، بينما لم نتمكن بعد من بناء الجيش والشرطة الوطنيين. ثانياً: لا بد من بناء الحد الأدنى من الدولة المطلوبة في أفغانستان بسرعة البرق. وهذه هي الحقيقة التي تدركها جيداً إدارة أوباما. يذكر أن استراتيجية الإدارة الجديدة سلطت اهتمامها على القطاع الزراعي وإنشاء الوظائف الجديدة وبناء النظام القضائي العدلي، وإن كان ذلك على الورق على أقل تقدير. ولكن السؤال الآن: هل تمنح هذه الإدارة من الوقت والدعم الشعبي والرسمي ما يكفيها لتطبيق استراتيجيتها؟ يجب القول إنه يستغرق الإدارة بين عامين إلى ثلاثة أعوام على أقل تقدير كي تحقق نجاحاً واضحاً لاستراتيجيتها الأفغانية. ثالثاً: من الاستحالة هزيمة التمرد طالما ظل يتمتع بملاذات آمنة له في باكستان. يذكر هنا أن فلول طالبان المندحرة في عام 2001، وجدت صدراً باكستانياً حانياً لها، خاصة من قبل بعض قادة الجيش الباكستاني. فهناك اعتقاد ثابت بأهمية التحالف مع بعض عناصر "طالبان"، إن كان لإسلام أباد أن تحد من تنامي نفوذ الهند الإقليمي. وعلى رغم الجهود التي لا يزال يبذلها ريتشارد هولبروك المبعوث الخاص لكل من أفغانستان وباكستان في سبيل بلورة استراتيجية فاعلة، فإنه لم يحرز تقدماً عملياً يذكر حتى الآن. وبعد أن أبدت إسلام أباد عزماً على شن حملة عسكرية واسعة ضد عناصر "طالبان" المحلية، فإن من الواجب منحها المزيد من الوقت والمساعدات الدولية اللازمة لها. رابعاً وأخيراً: لا بد من وجود شركاء حقيقيين لأميركا على الأرض الأفغانية، إن كان لكابول أن تبني دولتها وتخرج من أزمتها السياسية المستمرة، بما فيها تلك التي تجددت إثر الانتخابات الرئاسية التي جرت في العشرين من أغسطس المنصرم. فمن دون الضغط على كرزاي بغية تشكيل حكومة تمثيلية حقيقية جديدة تضم كافة المعارضين، ومن دون وجود شركاء حقيقيين لواشنطن هناك، سيظل الوجود الأميركي احتلالا معزولا لن يكف الأفغان عن مقاومته، مثلما فعلوا مع الغزو السوفييتي في ثمانينيات القرن الماضي. أحمد رشيد كاتب باكستاني متخصص في الشؤون الأفغانية ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"