حقق النموذج الأوروبي نجاحاً على مستويات عديدة. وتغمرني السعادة كلما زرت ستوكهولم أو أمستردام، دعك من ذكر العواصم الأوروبية الباهرة مثل باريس وروما. فهناك الكثير مما يغري بنمط الحياة الأوروبية اليومي. لكن هل نتمنى لبلادنا أميركا أن تكون دولة مثل أوروبا؟ إجابتي عن هذا السؤال هي: كلا... على الأقل من الناحية الاقتصادية. وأود أن ألقي الضوء على مشكلة أخرى من مشكلات النموذج الأوروبي، ألا وهي استنزافه لكثير من حياة مواطنيه. وعندما نتحدث عن تفاصيل وعناصر الحياة اليومية، مثل الميلاد والموت وتربية الأطفال وتحقيق طموحات وقدرات الفرد والتعامل مع الخصومات والصداقات، فهي عناصر توجد جميعها في أربع مؤسسات فحسب هي: العائلة، المجتمع، العمل، والعقيدة. وبالنظر إليها على هذا النحو، فإن محور سياسات التخطيط الاجتماعي هو ضمان قوة وحيوية هذه المؤسسات. وبدلا من أن يحقق النموذج الأوروبي هذه الأهداف، فهو يضعفها تماماً. فأثناء قيادتي للسيارة في المناطق الريفية السويدية قبل سنوات قريبة مضت، لاحظت أن كل بلدة من البلدات الصغيرة لا تخلو من كنيسة لوثرية باهية الألوان فاتنة التصميم والمعمار، وقد أحاطت بها الحقول الخضراء المدعومة جميعها من قبل الحكومة. لكن المشكلة أن تلك الكنائس تخلو دائماً ممن يدخلها حتى في أيام الأحد. كما يعرف عن مجتمعات الدول الإسكندنافية تباهي سياساتها الرسمية بصداقتها للأطفال والعائلة. وعليه فهي تغدق على الآباء العاملين بعلاوات الطفولة، وتنشئ للأطفال مراكز الرعاية المجانية، فضلا عن إعطاء الأمهات العاملات إجازات أمومة طويلة نسبياً. لكن المشكلة أن هذه الدول نفسها تعاني من انخفاض حاد في الخصوبة، إضافة إلى انخفاض معدلات الزواج. وهي نفسها الدول التي تحرص على حماية الوظائف ودعم فوائدها بسخاء. لكن وباستثناء حالات نادرة جداً، هي نفسها الدول التي ينظر فيها الكثيرون إلى العمل باعتباره شرا لا بد منه، وتنخفض فيها جداً نسبة الذين يعبرون عن حبهم لعملهم. ولك أن تسمي هذه الظواهر بالمتلازمات الأوروبية. فقد أتيحت لي فرصة في إبريل الماضي لمخاطبة مؤتمر في زيوريخ، عبرت فيه عن بعض هذه الآراء. وعقب انتهاء الجلسة، جاءني بعض الحضور، ليعبروا لي صراحة عن عدم فهمهم لما عنيته بعبارة "أن نعيش الحياة كما ينبغي". فهم يشبعون رغباتهم الجنسية بما يكفي، ويقودون سيارات بي إم دبليو جديدة، ويملكون بيوت عطلات في أجمل المناطق الريفية... فهل من حياة أخرى أجمل من هذه؟ وبالنسبة لي فقد كان مثيراً للاهتمام أن يلقى في وجهي مباشرة بذلك السؤال الذي لا يرى معنى للحياة أبعد من الجنس ووسائل الرفاهية والترفيه، غير أنه لم يكن غريباً على أية حال. ومن شدة انتشار مثل هذه المفاهيم، أن هناك ذهنية أوروبية تنظر إلى البشر باعتبارهم مركبات كيميائية تتفاعل لفترة من الوقت، ثم تأتي فترة أخرى تتحول فيها إلى عناصر خاملة غير قابلة للتفاعل عند الموت. وفقاً لهذا المفهوم فإن الغاية من الحياة هي ملء هذا الفراغ الفاصل بين الحياة والموت، بأجمل ما يكون. وبما أن هذه هي الغاية، فالذي يفهم أن العمل نفسه لا يمثل قيمة سامية بحد ذاته، إنما ينظر إليه على أنه معيق ومفسد لسعادة الفرد وبهجته. وبالقدر نفسه، طالما أن الغاية النهائية هي الاستمتاع بالحياة، فلماذا على الفرد أن ينجب الأطفال ويربيهم... فهل من بلوى أكثر من الأطفال ومتطلبات تربيتهم التي لا تنتهي؟ وبالمنطق نفسه، فلماذا على الفرد أن يبدد حياته كلها في القلق على جيرانه والحرص على راحتهم؟ من هنا نصل إلى ما هو أكثر جوهرية وإثارة للحساسية: بما أن بهجة الفرد القصوى هي غاية حياته النهائية، فلماذا يأبه للدين والكنيسة، طالما أنهما يقيدانه وربما يقولان بغير ذلك؟ يجب القول إن كل متلازمة من المتلازمات الأوروبية هذه، بدأت تتخلل حياة مجتمعنا الأميركي في كافة المناحي. ذلك أن النموذج الأوروبي هو الذي يوفر الإطار النظري الفكري للسياسات الاجتماعية التي يتبناها الحزب الديمقراطي. ولا تُواجه هذه السياسات بما يلزم من مقاومة صلبة قوية لها من جانب خصومهم السياسيين الجمهوريين. وتسود الأجندة الاجتماعية للحزب الديمقراطي فرضيتان أساسيتان: مفهوما "المساواة" و"الإنسان الجديد". ووفقاً لمفهوم المساواة في الفكر الليبرالي الديمقراطي الأميركي، فإنه يحق لكافة المواطنين أن يكون لهم نصيب متساو في توزيع عائدات الحياة، سواء تمثلت في الدخل أم في حقوق التعليم وغيرها. وعندما يتعذر تحقيق هذه المساواة المفترضة، يرجع الفكر الليبرالي السبب إلى سوء السلوك البشري أو إلى عدم عدالة المجتمع. غير أني على قناعة بأن معطيات العلم الحديث وتطوراته خلال القرن الحالي، كفيلة بإقناع الليبراليين بالتخلي عن فرضية المساواة هذه. وبالمثل سوف تهزم تطورات علم البيولوجيا خلال القرن الحالي، فكرة الليبراليين الواهمة عن "الإنسان الجديد" الذي تشكله الحكومات بتدخلها وقراراتها الصحيحة. فالذي توصل إليه الفلاسفة الحكماء منذ آلاف السنين خلال تأملهم لطبيعة النفس البشرية، هو أن الإنسان أعقد من أن يختزل أو يبسّط على هذا النحو. تشارلس موري باحث ببرنامج دبليو. إتش. برادي للثقافة والحرية بمعهد أميركان إنتربرايز ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"