هل حان الوقت فعلاً "لإنهاء المهمة" في أفغانستان ووضع حد لحالة الانفلات الأمني والفوضى التي تضرب البلد في أفق الخروج بنتيجة واضحة من الحرب؟ ففي أكتوبر من عام 2002 ألقى باراك أوباما الذي كان وقتها عضواً في مجلس شيوخ ولاية إيلينوي خطاباً سجل فيه موقفه الخاص من الحرب في العراق قائلًا أمام حشد من الجمهور في مدينة شيكاجو: "إني لا أعارض جميع الحروب"، ثم أضاف بكلمات سرعان ما انتشرت على نطاق واسع: "ما أعارضه في الحقيقة هو الحروب الغبية... إذا كنت تريد القتال سيدي الرئيس فلننه المعركة مع ابن لادن والقاعدة أولاً". وفيما انتقل أوباما إلى مجلس شيوخ الولايات المتحدة، ثم بعدها إلى البيت الأبيض بعد انتخابه رئيساً للبلاد ظل تعهده بـ"إنهاء المهمة" في أفغانستان قائماً، بل أصبح أحد الملامح الأساسية لحملته الانتخابية ومرتكزاً رئيسياً في سياسته الخارجية التي عبر عنها في أكثر من مناسبة. لكن ما بدا أنه بدهي في مرحلة التجاذب السياسي الداخلي بين أوباما ومنافسيه الذي فرضه التسابق المحموم على البيت الأبيض، أصبح اليوم بعدما استقرت الأمور من السياسيات المستعصية التي تحتاج الكثير من الجهد والتفكير لإنهاء الحرب في أفغاسنتان والخروج بنتيجة تتطابق والأهداف التي أدت إلى شنها في البداية. ولا يعني ذلك أن أوباما كان على خطأ عندما حذر من إغفال الحرب في أفغانستان وخطورة ذلك على أمننا القومي، فمعروف أنه في حال انهيار أفغانستان وتحولها إلى معقل لتنظيم "القاعدة" سيكون الأمن العالمي والأميركي في خطر، وإذا استمر العنف في التسرب إلى باكستان النووية وسرع ذلك من سقوط الحكومة المدنية الهشة فسنعيش أوقاتاً صعبة، لكن المشكلة أننا لم نعد نعرف ماذا نعني بالضبط عندما نتحدث عن إنهاء الحرب في أفغانستان؟ ولا كيف نقوم بذلك. فما أن سارعت إدارة بوش إلى الانخراط في حرب العراق وخصها بجهد وموارد كبيرين، أصبحت أفغانستان حرب أميركا اليتيمة، حيث صارعت القوات الأميركية هناك للحصول على الموارد التي ذهب جلها إلى العراق وبذلت قصارى جهدها لتأمين اهتمام صناع القرار في البيت الأبيض بعدما بدأ يخفت لصالح تحديات الحرب في العراق، وكانت النتيجة أن تعطلت مشاريع إعادة الإعمار وتراجعت المكاسب العسكرية التي تحققت في المراحل الأولى. لكن الأخطر من ذلك انحسار التأييد الشعبي للوجود الأميركي في أفغانستان بسبب الهجمات الجوية التي تشنها قوات التحالف بقيادة أميركية والتي فرضها نقص القوات البرية وعدم كفايتها لموجهة المسلحين فتضاعف سقوط المدنيين جراء القصف الجوي الذي لا يفرق بين مدنيين وإرهابيين. وفيما كانت قوات حلف شمال الأطلسي تضاعف جهودها لطرد "طالبان" و"القاعدة" من جبال أفغانستان الوعرة استطاع المسلحون التسلل إلى داخل التراب الباكستاني والاحتماء في المناطق القبلية الخارجة عن سيطرة الدولة التي تحولت إلى قاعدة خلفية لشن هجمات عبر الحدود على قوات التحالف واستهداف خطوط الإمدادات بين باكستان وأفغانستان، بل وشن هجمات على أهداف مرتبطة بالحكومة الباكستانية غير الشعبية. والنتيجة أن انتقلت الحرب إلى داخل باكستان فردت الولايات المتحدة بالقصف الجوي لمواقع المتمردين في عمق الأراضي الباكستانية، مما أسفر أيضاً عن خسائر بشرية فادحة أحياناً في صفوف المدنيين ليدفع الأهالي نحو المزيد من التشدد والراديكالية على حساب الحكومة الباكستانية التي باتت في موقف ضعيف يهدد استمرارها. لذا لم يعد واضحاً وسط هذا التعقيد الشديد للوضع والتشابك في الأوراق كيف يمكن إنهاء الحرب في أفغانستان كما وعد الرئيس أوباما ولا الوسائل الكفيلة بتحقيق ذاك، فهل نقوم مثلاً بإرسال المزيد من القوات إلى أفغانستان مثلما يريد أوباما؟ لا شك أن تعزيز الوجود العسكري أصبح ضرورياً اليوم في ظل تنامي قوة "طالبان" وسيطرتها على المزيد من المواقع، وهو ضروري أيضاً على المدى القصير لحماية التجمعات السكنية من انتقام "طالبان"، كما أن إرسال قوات إضافية سيقلص الحاجة إلى القصف الجوي وسيخفض بالتالي من الضحايا المدنيين. لكن دون استراتيجية شاملة تعالج الحرب من جميع جوانبها لن تتمكن القوات الإضافية من إنهاء الحرب على المدى الطويل، وسيستمر الوضع الحالي بكافة إخفاقاته في تأريق الإدارة الجديدة وقض مضاجعها. فاجتثاث "القاعدة" و"طالبان" من أفغانستان لن يساعد الولايات المتحدة كثيراً، إذا تحولت باكستان إلى قاعدة إقليمية جديدة للإرهاب بخصوصيتها النووية، لكن أميركا لن تستطيع بالطبع إضافة حرب جديدة في باكستان إلى حروبها الأخرى. على المدى البعيد، لا بد لأي استراتيجية شاملة أن تحرم المسلحين من التأييد الشعبي الضروري لبقائهم على قيد الحياة واستمرارهم في أنشطتهم، وذلك من خلال مساعدة الشعبين الأفغاني والباكستاني في بناء الطرق والمدارس وإقامة بنية تحتية اقتصادية تلبي احتياجاتهم، غير أن الأمر هنا ينطوي على ثنائية البيضة والدجاجة: فالحل العسكري لن ينجح في تحقيق أهدافه دون استثمارات مهمة في القطاع المدني والاهتمام بالجانب الإنساني، لكن في الوقت نفسه لن تتقدم مشاريع إعادة الإعمار ويستفيد منها الأهالي دون القضاء على الفوضى وفرض الأمن والقانون. وفيما كان الوضع في العام 2002 سهلاً نسبياً وكان بالإمكان وقتها إنهاء الحرب تراجع الهدف اليوم إلى مجرد منع أفغانستان وباكستان من الانزلاق إلى الفوضى، وهو ما يتطلب مقاربة متكاملة تجمع بين الاستراتيجيتين العسكرية والتنموية وفي الوقت نفسه معالجة الديناميكية الإقليمية (التوتر القائم بين الهند وباكستان يصرف هذه الأخيرة عن التركيز على جهود مكافحة الإرهاب، فيما يقلص التوتر في علاقات أميركا بين إيران ورسيا من فرص التعاون الإقليمي). لكن ذلك لا يعني أن الإدارة لن تكون قادرة على إحراز تقدم في أفغانستان، لا سيما وأن أوباما انخرط فعلاً في جهود "إنهاء المهمة"، هناك من خلال الدعوة إلى تبني استراتيجية شاملة والإصغاء إلى العديد من الخبراء بوجهات نظرهم المختلفة. --------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"