ذكرنا الرئيس أوباما في خطاب تنصيبه يوم الثلاثاء الماضي بأن "قوتنا تنمو من خلال استخدامنا الحصيف لها، وأن منشأ أمننا هو عدالة هدفنا وحسن قدوتنا ومثل تواضعنا وكبح جماحنا". وقبل أسبوع واحد من التنصيب، قالت وزيرة الخارجية الجديدة هيلاري كلينتون أثناء جلسة استماع الكونجرس التي عقدت للمصادقة على توليها لمنصبها الجديد: "ليس في وسع أميركا الانفراد بحل أكثر المعضلات العالمية آنية وضغطاً، وليس في مستطاع العالم حل المعضلات نفسها بعيداً عن الدور الأميركي. وهذا ما يلزمنا باستخدام ما يسمى بـ"القوة الذكية" المؤلفة من مجموعة من الأدوات لا تزال رهن تصرفنا". والمقصود بالقوة الذكية، تلك التي تجمع ما بين القوتين الناعمة والخشنة. فالبقوة الناعمة يمكن تحقيق الأهداف المرجوة عن طريق الترغيب والجذب لا الإكراه أو الشراء. وتشير استطلاعات الرأي العالمي إلى تراجع خطير لقوة أميركا وقدرتها على جذب الشعوب في كل من أوروبا وأميركا اللاتينية، خاصة شعوب العالم الإسلامي. وتشمل الموارد التي تتألف منها القوة الناعمة لدولة ما، ثقافتها القادرة على جذب الآخرين، وقيمها، حين لا تشوهها الانحرافات والسلوكيات الملتوية، فضلاً عن سياساتها الرشيدة. وحين وجهت الأسئلة لمن شملتهم استطلاعات الرأي بشأن سبب اعتقادهم في تراجع القوة الأميركية الناعمة، أشاروا إلى سياسات واشنطن أكثر مما ذكروا الثقافة والقيم الأميركية. ولما كان سهلاً على أي دولة أن تغير سياساتها أكثر من أن تغير ثقافتها، فإن في وسع أوباما أن ينتهج من السياسات ما يساعد على استعادة بعض ما خسرته أميركا من قوتها الناعمة. وبالطبع، فإن القوة الناعمة ليست حلاً لجميع المشكلات. فعلى سبيل المثال، يعشق طاغية كوريا الشمالية، كيم جونج إيل، مشاهدة أفلام هوليوود، إلا أنه ليس مرجحاً لتلك الأفلام أن تغير رأيه بشأن برامج أسلحة بلاده النووية. كما لم تؤد القوة الناعمة الأميركية أي دور يذكر في إقناع حكومة حركة "طالبان" بالكف عن دعمها لتنظيم "القاعدة" في عقد تسعينات القرن الماضي. فلم ينته ذلك الدور إلا بتدخل القوة الخشنة في عام 2001. بيد أن هناك من الأهداف الأخرى مثل نشر القيم الديمقراطية وحقوق الإنسان، ما تؤدي فيها القوة الناعمة دوراً يعول عليه. وقبل ما يزيد على العام بقليل، استنتجت لجنة دراسة القوة الناعمة بـ"مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" - وهو مؤسسة أبحاث ودراسات ثنائية حزبية - أن صورة أميركا ونفوذها قد تراجعا عالمياً خلال السنوات الأخيرة الماضية، وأنه على أميركا أن تبدأ بالتحول من تصدير الخوف، إلى إلهام شعوب العالم بالتفاؤل والأمل. ولم تكن تلك اللجنة هي الوحيدة التي انفردت بالتوصل إلى ذلك الاستنتاج. فقد دعا وزير الدفاع روبرت جيتس إلى ضرورة أن تخصص أميركا المزيد من المال والجهد لأدوات القوة الناعمة، بما فيها النشاط الدبلوماسي والمساعدات الاقتصادية والاتصالات، طالما أنه ليس في مقدور القوة العسكرية وحدها حماية المصالح القومية الأميركية. وأشار "روبرت جيتس" إلى أن الجيش الأميركي ينفق ما يقارب نصف تريليون دولار سنوياً - عدا عن حربي العراق وأفغانستان - على عملياته، قياساً إلى 36 مليار دولار سنوياً فحسب، هي كل الميزانية المخصصة لوزارة الخارجية. وورد على لسانه قوله: إنني هنا للدفاع عن تعزيز قوتنا الناعمة، ودمجها بمستوى أفضل وأكثر فاعلية، في قوتنا الخشنة". والحق أن تأثيرات وتداعيات هجمات 11 سبتمبر، قد انحرفت بأميركا عن مسارها وتقاليدها في استخدام قوتها الناعمة. وعلى رغم صحة القول إن الإرهاب لا يزال مهدداً جدياً، فإن المغالاة في الاستجابة لخطره، ألحقت ضرراً بأميركا ومصالحها أكبر مما فعل الإرهابيون. ويستدعي إنجاح الجهود الأميركية المبذولة ضد الإرهاب، إيجاد استراتيجية وأدوات أفضل للعمل ضده من "الحرب على الإرهاب". وفي وسع التزام أميركا بنشر ما فيه خير العالم كافة ما يوفر ذلك البديل المطلوب. وهذا ما يدعوني للاعتقاد بأن في مقدور أميركا أن تستعيد قوتها الناعمة مجدداً باستثمارها في الخير العام العالمي، أي بتوفير تلك السلع والخدمات التي طالما تطلعت إليها شعوب العالم، دون أن تتمكن من الحصول عليها، بفعل غياب الدور القيادي الأميركي. وليست من أمثلة أفضل لهذا الخير العالمي، من نشر التنمية وتحسين الرعاية الصحية والتصدي لخطر التغير المناخي. وفيما لو مزجت أميركا بين قوتها العسكرية الخشنة وقوتها الاقتصادية، ووسعت استثمارات قوتها الناعمة، وكرست جهودها لخدمة الخير العالمي العام، فإنها سوف تستطيع حتماً توفير الإطار المطلوب لمواجهة التحديات العالمية. ولن يتوافر هذا الإطار ما لم تغير واشنطن نهج أحاديتها، وتبدي حساسية أكبر تجاه دول العالم وشعوبه، إن كانت تأمل في تحسين دور قوتها الناعمة. يذكر أن الكاتب الصحفي "تشارلز كروثامار" كان قد دعا في عام 2001، إلى ما أسماه "الأحادية الجديدة"، وهو النهج الذي مارست بموجبه واشنطن فرض إرادتها على العالم طوال السنوات الماضية. غير أنه أسفر عن نتائج عسكية، وألحق ضرراً بالغاً بصورة أميركا على الصعيد العالمي. صحيح أن الرئيس أوباما تولى مهامه في ظروف دولية مضطربة صعبة المراس، شهدت فيها سمعة أميركا وصورتها تراجعاً دولياً خطيراً. ولكن لنذكر أن ظروفاً مماثلة كانت قد سادت في عام 1970 أثناء حرب فيتنام، استقطبت فيها أميركا كراهية الجزء الغالب من العالم. لكن مع مرور الزمن وتغير السياسات، تمكنت أميركا من تحسين صورتها واستعادة دور قوتها الناعمة. وهذا ما يمكن تكراره ثانية في ظل الإدارة الجديدة. --------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"