لقد وجهت انتقادات لكلا المرشحين في الانتخابات الرئاسية الأميركية بسبب عجزهما في مناظرة يوم الثلاثاء الماضي والمناظرة السابقة لها، عن تحديد أو تسمية أية خطط مستقبلية في مواجهة العجز المالي، وخطة الإنقاذ الاقتصادي المقترحة حالياً. غير أن هذه الانتقادات ربما لا تكون قد أصابت هدفها، بل ربما كان من الخطأ أيضاً الافتراض الشائع حالياً عن احتمال تكرار ما حدث عام 1993، حين اضطر الرئيس كلينتون إلى التخلي عن الكثير من الخطط التي وعد بها أثناء حملته الانتخابية الرئاسية، بسبب تصاعد عجز الموازنة العامة. وقد يبدو للوهلة الأولى شهر يناير من العام المقبل كثير الشبه بالشهر نفسه من عام 1993. وحينها كان العجز في الموازنة الفيدرالية يقدر بحوالي 300 مليار دولار سنوياً، أو ما يعادل نسبة 5 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وهي نسبة كبيرة ومقلقة بالطبع. وبالمقارنة يقدر عجز الميزانية الفيدرالية بحلول شهر يناير من العام المقبل بنحو 410 مليارات دولار، أي بما يعادل نسبة 3.3 في المئة من إجمالي الناتج المحلي. وليست هذه نسبة مقلقة إلى ذلك الحد. ولكن في حال استخدام الموازنة العامة لإجمالي قيمة خطة الإنقاذ الاقتصادي المقترحة حالياً البالغة 700 مليار دولار، فإنه يصبح وارداً أن يتجاوز العجز نسبة 6 في المئة من إجمالي الناتج المحلي، وهي النسبة الأعلى من نوعها على الإطلاق منذ عام 1983. بل وفي حال انزلاق البلاد إلى هوة كساد اقتصادي أعمق، مصحوب بانكماش العائدات الضريبية وحجم الإنتاج المحلي، فإن من المممكن أن يقفز العجز إلى معدل أعلى من ذلك بكثير، عند النظر إليه باعتباره جزءاً من الاقتصاد القومي. ولكن ليست الأمور كلها كما تبدو في الواقع. وابتداءً فإن قيمة الـ700 مليار دولار المخصصة لتمويل خطة الإنقاذ الاقتصادي، هي أقرب إلى كونها قرضاً أو استثماراً مؤقتاً، منه إلى كونها إنفاقاً حكومياً إضافياً كما تبدو في الظاهر. ووفقاً لخطة الإنقاذ هذه، تعتزم الخزانة الفيدرالية شراء كافة ديون "وول ستريت" المعسّرة، التي يتألف معظمها من رهون عقارية مؤمّنة، لا تتوفر لها أسواق في الوقت الحالي، في ذات الوقت الذي تستخدم فيه قيمة الـ700 مليار دولار المخصصة للإنقاذ الاقتصادي، بإصدار مديونية حكومية إضافية، مع العلم أن جزءها الغالب ستتكفل بتوفيره الحكومات والدائنون الأجانب. وإذا ما تمكنت الرهون العقارية هذه من استعادة قيمتها السابقة -وهذا ما نأمله جميعاً- فسرعان ما تتحول الديون المعسرة إلى ديون أفضل قابلة للسداد من قبل المدينين. وعندها تستطيع الخزانة الفيدرالية إعادة بيع الأوراق المالية الخاصة بها بأسعار أفضل، حتى وإن لم تكن مربحة على أية حال. وحتى في حال عجز الخزانة الفيدرالية عن تغطية التكلفة الإجمالية لخطة الإنقاذ الاقتصادي بهامش ضئيل، فإنه سيصبح في وسع الرئيس المقبل فرض رسوم إجبارية على "وول ستريت" لسد تلك الفجوة المالية الصغيرة. أما وجه الاختلاف الثاني بين يناير 2009، ويناير 1993، فهو أن بلادنا كانت قد خرجت للتو من دوامة كساد اقتصادي في عام 1993. وعلى رغم النمو البطيء والتدريجي في مجال التوظيف حينئذ، إلا أن الطلب على منتجات المصانع والشركات كان يرتفع، بينما واصل الاقتصاد القومي نموه. وهذا يعني تنامي الطلب على رؤوس الأموال الخاصة. وفي ظل تلك الظروف، كان العجز الذي ورثه الرئيس الأسبق بيل كلينتون، يهدد باستزاف وإجهاد الاقتصاد القومي. وهذا ما أرغم كلينتون على تقليص حجم العجز الفيدرالي، وهو ما شدد عليه حينها ألان جرينسبان، الرئيس السابق للبنك الاحتياطي الفيدرالي. وفيما لو لم يكن كلينتون أقدم على تقليص العجز والتخلي عن الكثير من الأجندة الاقتصادية التي تبناها أثناء حملته الانتخابية، لكانت أسعار الفائدة ارتفعت كثيراً، ولجاء التعافي الاقتصادي هزيلاً وواهناً. غير أن كافة المؤشرات الاقتصادية تشير إلى أن العام المقبل سيكون مختلفاً جداً عن عام 1993، لكونها تشير إلى اتجاه اقتصادنا القومي نحو موجة كساد عميق. فقد ارتفعت معدلات البطالة سلفاً، بينما لا يبدو الاتجاه العام مشجعاً. وبدافع القلق على الوظائف، وكذلك الخوف من ارتفاع أسعار الوقود والغذاء وتكلفة التأمين الصحي وغيرها، فالملاحظ أن الطبقة الوسطى الأميركية لا تبدي رغبة في الإنفاق على ما يتعدى حدود الضروريات ولوازم الحياة. وفي ظل ظروف كهذه، فإنه يصعب رفض الإنفاق الفيدرالي على العجز المالي. وبصفتها المممول الأخير للعجز، فقد كان لا مناص للحكومة الفيدرالية من أن تقدم على اتخاذ خطوة إنقاذ الاقتصاد القومي والحيلولة دون انهياره التام. وهذا درس كنا قد تعلمناه من سنوات الحرب العالمية الثانية، حين أسهمت التعبئة المالية للحرب في إنقاذنا من موجة "الكساد العظيم" التي غرقنا فيها، في نهاية المطاف. ثالثاً وأخيراً: ليس العجز متكافئاً ولا متساوياً في كل الحالات. وكما تعلم جميع الأسر تقريباً، أن الاستدانة من أجل إرسال طفل إلى المدرسة أو طالب إلى الجامعة، تختلف جداً عن الاقتراض من أجل تمويل رحلة بحرية ترفيهية في مياه المحيط. وبالمنطق نفسه، فإن تمويل الاستثمار في المستقبل المالي والاقتصادي للأمة، يختلف كل الاختلاف عن تمويل المحافظة على مستوى المعيشة الحالي من ميزانية العجز. وهنا أيضاً تظهر الفوارق واضحة جداً بين عامي 1993 و2009. ففي العام الأول، كانت البنية التحتية لنظام النقل والترحيل العام، من طرق سريعة وجسور وغيرها، بحاجة إلى بعض الصيانة. أما اليوم فإن هذه البنية تواجه خطر الانهيار التام. وفي عام 1993 كانت فصول المدارس شديدة الاكتظاظ بالتلاميذ، إلى حد جعلها غير ملائمة للدراسة، في حين اضطرت بعض المناطق الفقيرة إلى إغلاق برامج ما قبل وما بعد التعليم المدرسي. أما اليوم، فقد تحولت هذه الظواهر إلى وباء عام. وفي عام 1993 كان عدد الأميركيين الذين لا يتمتعون بالضمان الصحي يقدر بنحو 35 مليوناً، أما اليوم فلا يقل عددهم عن 50 مليوناً. ثم أضف إلى ذلك كله، التردي المريع في مستوى حياة غالبية الأميركيين. ولكل هذه الأسباب، فليس غريباً أن تكون الطبقة الوسطى الأميركية، هي الأشد غضباً من خطة الإنقاذ الاقتصادي الأخيرة، لكونها تبدو إنقاذاً لمؤسسات "وول ستريت" المسببة للأزمة، أكثر منها إنقاذاً لمستقبل اقتصادنا القومي. --------- ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"