على رغم أنه من الثابت أن الألواح التكتونية المكونة للقشرة الأرضية ظلت تتحرك من مكانها، دون أن نشعر، ومنذ زمن بعيد، كما يقول علماء الجيولوجيا، إلا أن المدى الخاص بهذا التحرك، بدا بشكل محسوس في يوم 8 أغسطس الجاري. ففي الوقت الذي كانت فيه بكين تقيم فيه "حفل تخرج" مذهل كقوة عالمية كبرى، كانت الدبابات الروسية تغزو جورجيا الواقعة على بعد 4000 ميل، مرسلةً بذلك إشارة واضحة وعالية الصوت تفيد بأنها لن تسمح بعد الآن لأي كان بالنظر إليها كقوة غير ذات شأن على الساحة العالمية. وإذن فلقد عادت روسيا إلى سابق قوتها، وتخرجت الصين كقوة عظمى، وأفاقت الولايات المتحدة فجأة على حقيقة أنها لم تعد القوة العظمى الوحيدة. والسؤال الآن: كيف ستتعامل هذه القوى مع بعضها بعضاً في السنوات القادمة، وما انعكاس ذلك على البشرية؟ إن البنية العالمية الجديدة البازغة، ستختلف اختلافاً بيناً عن تلك التي كانت قائمة في سني الحرب الباردة، والتي كانت تتمحور في الأساس حول سباق تسلح نووي خطر، وباهظ التكلفة. فالبنية الجديدة سيتم إرساء قواعدها من قبل القوى الثلاث العظمى، وأيضاً من قبل قوى أربع أخرى هي أوروبا واليابان والهند والبرازيل. وإليكم الآن خبراً طيباً: إن مصالح القوى القائدة في العالم في هذا النظام ستكون متداخلة فيما بينها بشكل وثيق. فالصين واليابان هما أكبر دولتين مقرضتين للولايات المتحدة، وروسيا هي الدولة التي تزود أوروبا بمعظم احتياجاتها من الطاقة، وخطوط الاستثمارات ومنظومات الإنتاج تنتقل عبر الحدود الوطنية لتلك الدول. وهذا النوع من الاعتماد المتبادل، سيجعل من احتمال نشوب حرب مفتوحة بين هذه القوى الكبرى، ضئيلاً للغاية، لأن أية حرب ستكون ذات آثار مدمرة تطال المنظومة بأكملها. لقد تمكن الرئيس جورج بوش من التعرف على هذه الحقائق منذ بداية الأزمة في جورجيا، وهو ما دعاه إلى تجنب الإقدام على أي خطوة قد تقود إلى صدام مع روسيا -وهي خطوة قد لا تبدو بالمناسبة "صائبة" بالنسبة لقطاع كبير من الأميركيين. من المؤكد أن جورجيا ليست معفية من المسؤولية عما حدث، إلا أن الوقت ليس وقت تحديد المسؤولية، وإنما هو الوقت الذي يجب أن تسعى فيه واشنطن جاهدة إلى التوصل إلى تسوية- يمكن أن تتخذ شكل ترسيم فضفاض للحدود- تحمي حدود جورجيا، كما تحمي حقوق الأقليات في ذات الوقت. ولكن الاهتمام الكبير بموضوع جورجيا، يجب ألا يشغل أميركا عن التفكير جدياً بشأن كيفية العمل مع روسيا والصين، وغيرهما من الحكومات، من أجل معالجة التحديات العالمية الأخطر مثل الانتشار النووي (خصوصاً في إيران)، والأصولية الإسلاموية العنيفة العابرة للقوميات، والتغيرات المناخية، ناهيك بالطبع عن التحديات المستمرة المترتبة عن الحربين المشتعلتين في العراق وأفغانستان. فعندما تتعاون القوى الثلاث الكبرى في هذه القضايا، فإن كلاً منها ستطرح على الطاولة نقاط قوتها المميزة، ونقاط انكشافها، وطموحاتها الوطنية كذلك. فأميركا ستطرح قوتها الاقتصادية (التي تتعرض لمتاعب الآن)، ودورها في خلق وصيانة النظام العالمي القائم، ودفاعها عن حقوق الإنسان، والحريات، والحكومات الديمقراطية (حتى وإن اعتبر البعض هذا الكلام من قبيل النفاق). وأما روسيا فستطرح نفسها كدولة تخلصت من إمبراطورية سابقة، بكل ما كان يرتبط بها من أفكار شيوعية، ثم عثرت أخيراً على توازنها الداخلي بفضل ما يتوافر لها من ثروة هائلة في مجال الطاقة، واعتزاز كبير بكرامة وطنية تمكنت من استردادها في النهاية بعد أن تعرضت طويلاً للمهانة على أيدي الغرب في عقد التسعينيات من القرن الماضي. أما الصين، فستطرح نفسها كعملاق صاعد بشكل هادئ معتمد في ذلك الصعود- على رغم سياساته القمعية الداخلية- على التعاون الاقتصادي، والثقافي، والانفتاح على دول العالم وعلى رأسها القوى الكبرى، وتجنب المواجهة معها، ما مكنه في النهاية من تحقيق طفرة اقتصادية هائلة، وضعت حداً لسنوات الفقر والتخلف والهوان أمام القوى الاستعمارية. وكل هذه المتغيرات تطرح سؤالاً آخر هو: هل الأمم المتحدة قوية ومرنة بدرجة تسمح لها باستضافة مثل هذه المناقشات التي يتعين إجراؤها- التي سيكون لها مردود إيجابي على العالم وتماسكه كمنظومة سياسية واحدة- ليس فقط بين هذه القوى الثلاث، وإنما أيضا مع باقي شعوب العالم؟ شخصياً أعتقد أنها قادرة، ولكن صُناع السياسة سيكونون مع ذلك بحاجة للعثور على مكان أكثر هدوءاً، يستطيعون فيه النظر في عدد من الخيارات المتاحة أمامهم، والتنقيب عن استجابات وردود أفعال أخرى، وبناء علاقات عمل فعالة، بعيداً عن الأضواء. إن مجلس الأمن الدولي يمكن أن يكون منبراً رئيسياً في هذا الصدد حيث يمكن فيه التوصل- أيضاً- إلى تسوية دائمة بشأن جورجيا. فنظراً لأن روسيا وأميركا تمتلكان حق "الفيتو" في المجلس، فإن جل تركيزهما سينصب على التفاوض من أجل التوصل إلى صيغة، أو إجماع، يمكن للدولتين أن تعملا بموجبه، كما يمكن أن يشكل في نفس الوقت أساساً للعمل في "منظمة الأمن والتعاون الأوروبي" التي تضم 56 دولة والتي يتوقع أن تلعب دور القابلة القانونية التي ستساعد على ولادة اتفاقيات السلام في جورجيا، ومراقبتها. هل سيهتم حكام روسيا كثيراً إذا ما تم طردهم من مجموعة الدول الثماني العظمى، أو حرموا من الانضمام لمنظمة التجارة العالمية كما هدد مسؤولو إدارة بوش؟ أشك في ذلك.. ولكنهم- ونحن أيضاً معهم- يجب أن يعتنوا غاية العناية بمسألة إيجاد طريقة للتعامل مع كافة القضايا المطروحة راهناً على الساحة العالمية، دونما حاجة إلى الدخول في مواجهات بالسلاح ستلحق بنا- إذا ما حدثت- أضراراً لا يمكن تخيل أبعادها.