بعد أن تم تقديم أوليفر ويندل هولمز، رئيس محكمة العدل العليا الأميركية، إلى الرئيس الأسبق فرانكلين دي. روزفلت، قال القاضي قولته الشهيرة عن الرئيس: "إنه يتمتع بذكاء ذهني من الدرجة الثانية، إلا أنه عاطفي من الطراز الأول". ولعل أغلب المؤرخين يوافقون قاضي المحكمة العليا هذا الحكم، طالما أن القسط الأكبر من النجاح السياسي الذي حققه "روزفلت"، يقوم على ذكائه العاطفي، وليس على قدراته التحليلية وحدّة ذكائه الذهني. وخلافاً للرأي القائل بتعارض العواطف المستمر مع التفكير، يشير مفهوم الذكاء العاطفي إلى أن من شأن قدرة الإنسان على ضبط العواطف وتنظيمها، أن ترفع درجة تفكيره وأدائه بشكل عام، وتعطيهما قدراً أكبر من الفاعلية. وعادة ما يتمكن القادة الذين يتمتعون بقدر عالٍ من الوعي بالذات والانضباط والتفاعل مع الآخرين، من التعبير بشكل أفضل عن مشاعرهم، واستقطاب شرائح أوسع من المؤيدين. علماء النفس قد واصلوا مساعيهم المتعلقة بوضع تعريف دقيق للذكاء، خلال ما يزيد على قرن كامل من الزمان. وضمن ذلك يلاحظ أن اختبارات الذكاء العامة التي يخضع لها الأفراد، تهتم بتقييم جوانب محددة، مثل المهارات الذهنية وسرعة البديهة والمشافهة وغيرها. إلا أن هذه الاختبارات لا تتنبأ إلا بما يتراوح بين 10 إلى 20 في المائة فحسب من متغيرات الذكاء في سياق النجاح المهني أو الأكاديمي الذي يحققه الفرد. أما نسبة الـ80 في المائة الأخرى، فهي نتاج مئات المتغيرات التي تحدث للفرد عبر الزمن، وليست العاطفة سوى واحدة منها فحسب. بيد أن من رأي الخبراء أن الذكاء العاطفي يعد مكوناً مهماً من مكونات القيادة، فضلاً عن إمكانية تعلمه. ومن رأيهم أيضاً أن هذه المهارة قابلة للنمو المستمر تبعاً لاتساع الخبرة، وأن أشخاصاً كثيرين يستطيعون تطويرها بدرجات ومراحل مختلفة. ويساعد الذكاء العاطفي القادة على تلوين جاذبيتهم السياسية، بحيث تتوافق مع تعدد السياقات التي يتعاملون معها. ولعل جميعنا يدرك كيف يغير الطريقة التي يقدم بها نفسه، حرصاً على ضبط الانطباعات التي يتركها عن نفسه لدى الآخرين. وفي اعتقادي أن جميعنا قد سمع تعبير "عليك بارتداء ما يناسب من أجل النجاح". وضمن هذا المفهوم رأينا ميل المرشحين السياسيين في بلادنا، إلى التخلي عن ربطات أعناقهم الحريرية، وارتداء الملابس الشعبية البسيطة عند تنظيم حملاتهم في الولايات التي تعتمد على النشاط الزراعي. بل إن الجنرال "جورج باتون"، الذي طالما عرف بحزمه العسكري وبعده عن الشكليات، كان حريصاً على التأكد من هيئته العامة أمام المرآة. كما عرف عن "روبرت موجابي"، طاغية زيمبابوي تبديل لغة خطابه من الإنجليزية إلى لغة الشونا والعكس، حسب نوع ومستوى تعليم الجمهور الذي يخاطبه. وعلى رغم صعوبة تزييف مهارة الذكاء العاطفي، فإنها تتطلب تطوير مهارة أشبه بتلك التي لدى الممثلين الجيدين. وفي هذا الجانب فقد أفاد الرئيس الأسبق رونالد ريجان فائدة كبيرة، من واقع خبرته السابقة في التمثيل المسرحي والسينمائي. وبالقدر نفسه، يمكن وصف سلفه الأسبق روزفلت بأنه كان "ممثلاً" من طراز فريد. فعلى رغم الآلام ومصاعب الحركة الناجمة عن إصابته المبكرة بمرض شلل الأطفال، فإنه كان شديد الحرص على مظهره وهيئته في جميع الصور التي التقطت له. واليوم فإن هناك من النقاد من يأخذ على المرشحين الرئاسيين باراك أوباما وجون ماكين، حرصهما على ضبط الصورة التي يظهران بها أمام ناخبيهما. ولكن ما الجديد في هذا الحرص أصلاً، خاصة أن أي مظهر مهلهل أو غير لائق لأي منهما، سرعان ما يجد طريقه في ثوانٍ معدودات فحسب إلى موقع "يو تيوب" أو أي من مواقع المدونات الإلكترونية التي لا تحصى؟ وضمن ما تتطلبه المهارة القيادية الفاعلة، حرص القائد وانتباهه لمزاجه الشخصي، طالما أن أمزجة القائد هي التي تثير سلسلة من ردود الأفعال السلوكية والعاطفية، سواء في مجال العمل أم في الساحة السياسية. وإذا ما راقبنا عن كثب، سلوك أي من المديرين التنفيذيين للشركات أو الرؤساء، فسوف نلحظ أنهم لا يكفون عن بعث إشارات ورسائل لا تنتهي لمن حولهم. والأذكياء عاطفياً منهم يعون أثر هذه الإشارات والرسائل، ويبدون حرصاً على ضبطها وتوجيهها كما يريدون. وإلى جانب ذلك، تمارس هذه الفئة الأخيرة من القادة، نوعاً من ضبط النفس يمنعهم من إطلاق العنان لرغباتهم وانفعالاتهم الخاصة، بحيث تصبح هي المسيطرة على مجال العمل والقيادة. على نقيض هؤلاء، فقد عرف عن الرئيس الأسبق ريتشارد نيكسون، ضعف مهارة الذكاء العاطفي عنده. فبينما كان بارعاً للغاية في رسم استراتيجيات السياسة الخارجية لبلاده، إلا أنه لم يتمكن من إدارة شعوره الشخصي بعدم الأمان، مما أدى لانهيار ولايته في نهاية الأمر. وبالمقارنة، فقد أبدى الرئيس جورج بوش الابن قدراً من الذكاء العاطفي بتغلبه على مشكلة تناوله للكحول، وتمسكه بسياساته المعلنة، حتى وإن افتقرت إلى الشعبية السياسية وعارضتها الأغلبية. بيد أن هذا العزم من جانبه تحول في مرحلة ما إلى شكل من أشكال التعنت والعناد، حاجباً عنه بذلك فرصة التعلم وتغيير المواقف السلوكية والمشاعر حسب تغير السياق. وإذ ننتخب رئيساً جديداً لبلادنا خلال هذا العام، فإننا نفعل ما هو أكثر من مجرد معايرة موقف كل من المرشحين من قضايا السياسات التي يدور حولها الحوار العام في أميركا. والمقصود بهذا أننا نحاول التقاط الخيوط الموصلة إلى إجراء مقارنة ما بين باراك أوباما وجون ماكين، من ناحية أداء كل منهما في مهارات الذكاء العاطفي، اعتماداً على جوانب معينة من السيرة الذاتية لكل منهما. وتقتضي هذه المقارنة ملاحظة سلوكهما والطريقة التي يختاران بها ألفاظهما، فضلاً عن قدرة كل واحد منهما على ضبط سلوكه وعواطفه. وأغلب الظن أن كليهما سوف يواجه اختبارات ذكاء عاطفي عسيرة خلال الأشهر القليلة المقبلة، قبيل المعركة الفاصلة بينهما في نوفمبر المقبل. جوزيف ناي أستاذ بجامعة هارفارد مساعد وزير الدفاع للأمن الدولي. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"