إذا ما سُمح لقانون المراقبة الذي وقعه الرئيس بوش يوم الخميس الماضي أن يمر ويمضي دون تحدٍّ أو مناقشة -وهو ما يعطي الحكومة الأميركية صلاحيات غير محدودة تقريباً للتنصُّت على المكالمات الهاتفية للأميركيين الأبرياء، والتجسس على بريدهم الإلكتروني- فإننا نكون بذلك قد ألحقنا أفدح الضرر بمبادئ الحريات العامة وانفتاح المجتمع وحرية الصحافة. فالقانون الجديد الذي يتيح للسلطات الأمنية هذه الصلاحيات الواسعة، حتى دون الرجوع إلى السلطة القضائية للحصول على إذن، يُفرغ من أي مضمون ضرورة الإشراف القضائي على أنشطة التجسس الحكومية، التي ينص عليها القانون. وبموجب هذا التشريع الجديد أصبح عمل المحكمة المكلفة بالإشراف على أجهزة التجسس مقتصراً فقط على بعض التدابير الإجرائية، ولا يمتد إشرافها إلى الحالات الفردية. وهكذا لن تطّلع المحكمة على تفاصيل التجسس التي تطال أحد المواطنين، ولن تعرف حتى الشخص المعني بالأمر، وهو ما يعني في المحصلة النهائية أن القانون الجديد يعتريه قصور حاد في مجال حماية الأشخاص الأبرياء الذين تخضع مكالماتهم للتنصُّت أثناء قيام الأجهزة المعنية بأنشطتها التجسسية. والقانون الذي أجيز تحت يافطة "حماية الأمن القومي" يستهدف، حسب المدافعين عنه، الأشخاص خارج الولايات المتحدة، والحال أن القانون المذكور يسمح بالاطلاع على الاتصالات التي يجريها الأميركيون مع الخارج، وهي الاتصالات التي يمكن تخزينها واقتسامها ليس فقط مع الدوائر الحكومية في الولايات المتحدة، بل أيضاً مع الحكومات الأجنبية. والحقيقة أن هذا القانون سيعيق مثلاً من يعملون كصحفيين ومراسلين ويحتاجون إلى التواصل المستمر مع أشخاص خارج أميركا، لاسيما في الشرق الأوسط. لكن القانون بصيغته الحالية سيخيف المعارضين في تلك البلدان، كما سيُنفِّر نشطاء حقوق الإنسان، والمسؤولين الذين يسعون إلى كشف أكاذيب حكوماتهم، أو الحكومات المتحالفة مع بلدانهم. وبهذا المعنى سيتحول القانون إلى سيف مصلت على رقاب كل من يجرؤ على تحدي الرواية الرسمية للأحداث، فاتحاً الباب لانتقام مسؤولين لا يهمهم الأمن القومي بقدر ما يهمهم تعزيز قبضتهم على السلطة. لذا قررتُ الانضمام إلى مجموعة من الصحفيين ومنظمات حقوق الإنسان، والمحامين، وكل من يعتمد على سرية مصادر المعلومات في عمله، لرفع دعوى قضائية ضد هذا القانون. والسبب وراء تلك الدعوى القضائية ليس فقط الدفاع عن مهنتي وحمايتها من التطفُّل، بل لأنني أيضاً مقتنع بالضرر الذي يلحقه القانون الجديد بالحريات العامة، وبالمكتسبات التي تضمنها الدولة الديمقراطية. فحصانة القانون وتطبيقه العادل والسليم هو خط الدفاع الأخير عن حقوقنا كمواطنين، وما أن يُعدل القانون ليبيح المحظور حتى نفقد آخر القلاع لحماية حرياتنا وتحصينها من الانتهاك والتجاوز. لقد أمضيتُ شخصياً عشرين عاماً أعمل كمراسل خارجي لصحيفة "نيويورك تايمز"، إلى جانب مؤسسات إعلامية أخرى، وطيلة سبع سنوات عملت على تغطية الصراع في الشرق الأوسط، حيث نجحت في نسج علاقات مع أصدقاء وزملاء في القدس وغزة والقاهرة ودمشق وطهران وبغداد، فضلاً عن بيروت. وفي هذا السياق من السهل جداً أن أتحول إلى أحد المواطنين الأبرياء الذين تتجسس عليهم الحكومة بسبب قانون التجسس الجديد الذي يبيح لها ذلك. ولم تتأخر تداعيات القانون الجديد في الانعكاس على مهنتي عندما اطلعت في إحدى المرات على مواجهة وشيكة بين سفينة حربية أميركية وزورق إيراني، واحتمال تطور ذلك إلى صراع عسكري. حينها اتصلت بأحد المصادر الذي كان متواجداً على ظهر السفينة الأميركية ويبدو أن صوراً كانت بحوزته توضح الحالة على الأرض، لكنه فاجأني بسؤال عما إذا كان هاتفي وبريدي الإليكتروني مراقبَين. وعندما عجزتُ عن تأكيد العكس عرضت عليه أن أسافر لرؤيته، لكنه تحفظ على ذلك مخافة تعرضه للعقاب من رؤسائه في العمل. والمشكلة بالنسبة لي أنني لم أكن متأكداً من صحة الخبر، وعندما سعيتُ إلى التحقق من ذلك فشلتُ بسبب القانون الذي أخاف المصدر، وقيد يديه عن التعاون معي. والأكثر من ذلك أن جميع من يملك معلومات قد تفضح حكومات، وتكشف أكاذيبها، سيفكر مرتين قبل أن يبوح بها خوفاً من رصد الحكومة لمكالماته، أو بريده الإلكتروني. فمن المعروف أن مبدأ السرية، ووجود ثقة بأن الصحفي يحترم هذا المبدأ، لاشك مما يساعد في ضمان حرية الصحافة، لكن إذا اهتزت هذه الثقة، أو أطيح بذلك المبدأ، تضعف حرية الصحافة وتتلاشى. ولابد هنا من التأكيد على أنني مدرك جيداً لتكلفة الإرهاب وخطره، وشره المستطير، وتداعيات الحرب الطويلة ضده، كما أنني متفهم تماماً للتضحيات التي يتعيَّن بذلها أحياناً لحماية الأمن القومي، لاسيما وأنني تابعتُ العديد من هجمات تنظيم "القاعدة" في أوروبا، وغطَّيتُ صراعات كثيرة. كما لا أستطيع أبداً أن أشكك في ضرورة مراقبة المشتبه فيهم، ومتابعة أنشطتهم واتصالاتهم باعتبار ذلك جزءاً أساسياً من متطلبات صيانة الأمن القومي وصدِّ أخطار الإرهاب، لكن الجدل حول القانون الحالي لا يتعلق بحمايتنا التي يستطيع فعلاً ضمانها لو احترم الدستور وتم الالتزام بالإشراف القضائي، بل يرتبط باستخدام الحرب على الإرهاب كذريعة لتسويغ التجسس على الأميركيين، وإسكات الأصوات التي تجاهر بالمعارضة، وتسهر على انفتاح المجتمع وحرياته العامة. ـــــــــــــــــــــــــــــــــ كريس هيدجز ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مراسل "نيويورك تايمز" وحاصل على جائزة "بوليتزر" في عام 2002 ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"