من رأي البعض أن الاستفزازات المتكررة الصادرة عن موسكو ليست سوى محاولة لمنع جارتها جورجيا من الانضمام إلى عضوية حلف "الناتو"، وهو الوعد الذي تلقته جورجيا أثناء قمة "الناتو" التي عقدت في بوخارست في شهر أبريل الماضي. غير أن نشوب حرب بين هاتين الدولتين يمثل تهديداً جدياً للأمن والاستقرار المهزوزين أصلاً في منطقة جبال القوقاز وشرقي البحر الأسود، إلى جانب تهديده لانتعاش حركة صادرات الطاقة من منطقة بحر قزوين عبر جورجيا، مؤدياً بذلك إلى إلهاب أسعار النفط العالمي المرتفعة أصلاً. ليس ذلك فحسب، بل إن نشوب حرب كهذه، يهدد المصالح الأمنية لكل من أميركا وحلف "الناتو"، في منطقة لا تبعد كثيراً عن الشرق الأوسط. ولكل هذه المهددات، فإنه يلزم تجنب المواجهة العسكرية، إلا أن ذلك يتطلب بعض العون من جانب كل من أميركا والاتحاد الأوروبي. فبفضل الدبلوماسية الروسية في ذلك الوقت، شهد انهيار الاتحاد السوفييتي السابق، نشوء علاقات جوار سلمية بين موسكو وجاراتها الخمس عشرة المستقلة عنها، باستثناء إقليم أبخازيا الانفصالي الواقع في منطقة استراتيجية داخل الحدود الجورجية. وتحد الحدود الروسية هذه المنطقة من جهة الشمال، حيث تمارس موسكو قدراً كبيراً من النفوذ العسكري والاقتصادي. وبالنظر إلى شراسة المعارضة الروسية لانضمام جورجيا إلى حلف "الناتو"، فها هي قد بدأت باتخاذ الخطوات الفعلية لضم إقليم أبخازيا إلى حدودها -روسيا- في تصعيد استفزازي إضافي لجورجيا. ففي شهر أبريل الماضي، عزز الرئيس الروسي السابق فلاديمير بوتين النفوذ الاقتصادي والقانوني والإداري لبلاده على أبخازيا. وبعد أيام فحسب من تلك الخطوة، دمرت طائرة مقاتلة روسية طائرة استطلاع جورجية من دون طيار، على رغم نفي موسكو لهذه الحادثة. ولم تنته الاستفزازات الروسية عند هذا الحد، إنما ألحقتها بنشر 1000 جندي من جنودها في إقليم أبخازيا، أوكلت إليهم مهام حفظ السلام وصيانة الخط الحديدي. وهكذا وضعت جورجيا في مفترق طرق في الوقت الحالي. فإذا ما تراجعت موسكو عن استفزازاتها قليلاً، فإن من شأن ذلك أن يعيد افتتاح طرق النقل البري عبر أبخازيا ثم جورجيا ومنها إلى جمهورية أرمينيا. ويمكن أن يذلل تحول كهذا في الموقف الروسي، التنظيم السلمي لأولمبياد "سوشي"الشتوية بحلول عام 2014، فضلاً عن استقطاب السياحة وتنظيم حركة الملاحة البحرية، وتعزيز الاستثمار في منطقة شرقي البحر الأسود. وفيما لو تفادت روسيا وجورجيا نشوب حرب مدمرة بينهما، فسوف تكون جورجيا طرفاً كاسباً من عودة اللاجئين الداخليين إلى ديارهم في إقليم أبخازيا، وكذلك من اطمئنانها وثقتها بأمن طاقتها، إضافة إلى التحاقها الآمن بعضوية حلف "الناتو". لكن وفي الجانب الآخر، وفيما لو استمر التصعيد الروسي مثلما هو عليه، فإن من شأنه أن يشعل نيران مواجهة عسكرية بين الدولتين. فما الذي يمكن القيام به للحيلولة دون حدوث مواجهة كهذه؟ أولاً: ينبغي لجورجيا أن تعمق ممارستها الديمقراطية، وتظهر من الثقة ما يؤهلها للتصدي لمجمل القضايا والتعقيدات المحيطة بوضع إقليم أبخازيا. وفي مثل هذا السلوك ما يطمئن العرقية الأبخازية على أن حقوقها سوف تحترم في حال إعادة إدماج إقليمها في جورجيا. يذكر أن الانتخابات البرلمانية التي جرت في جورجيا الشهر الماضي، تعد تقدماً ديمقراطياً واضحاً على الانتخابات الرئاسية التي أجريت في شهر يناير من العام الحالي، فضلاً عن تقدمها كثيراً على أحداث شهر نوفمبر من العام الماضي، وهي الأحداث التي سحقت فيها القوات الحكومية إحدى كبرى المظاهرات الاحتجاجية التي نظمتها المعارضة وقتئذ. غير أنه لا يزال على جورجيا المضي نحو المزيد من الانفتاح على حرية الصحافة ونشاط الأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني. وفي المقابل ينبغي على القوى الجورجية المعارضة، فهم قواعد اللعبة السياسية الديمقراطية، بحيث يكون لها ممثلوها ونوابها داخل البرلمان، وتسهم على نحو بنّاء في عملية الحوار السياسي. ثانياً لا بد لروسيا من الاعتراف بأن أفضل وسيلة لخدمة مصالحها الاستراتيجية، هي بسط الأمن والسلام في منطقة شرقي البحر الأسود. فعلى رغم استحالة عودة موسكو إلى ماضي العهد السوفييتي، فإن بعض ممارساتها الحالية، تعيد للأذهان ذكريات تلك الفترة. وبدلاً من هذه الممارسات، فإن على موسكو أن تستأنف دبلوماسيتها الناجحة في مطالع عقد التسعينيات. يذكر أن الرئيس الروسي ميدفيديف ونظيره الجورجي ميخائيل ساكشفيلي، كانا قد أعلنا خلال اجتماع عقد بينهما في السادس من يونيو الجاري، قدرة بلديهما على حل الخلافات القائمة بينهما. وكانت تلك خطوة واعدة دون شك، إلا أنه لم تعقبها أي خطوات أخرى تؤدي إلى تسوية الخلافات الثنائية بينهما. ثالثاً وأخيراً: تحتاج روسيا وجورجيا إلى مساعدة خارجية، على نحو ما أشار إلى ذلك السيناتوران جوزيف بايدن وريتشارد لوجار بقولهما مؤخراً:" ليس في وسع جورجيا الخروج من مأزقها الحالي بمفردها". ووجه كلاهما نداء لأميركا والاتحاد الأوروبي للتعاون من أجل حل هذا المأزق. فعلى كلتا القوتين الدوليتين هاتين، إدراك مدى مخاطر اندلاع مواجهة عسكرية بين موسكو وجورجيا. ويتطلب ذلك أن تبادر كلتاهما إلى بذل كل ما يلزم من جهد للحؤول دون نشوب النزاع. وعليهما توفير المزيد من المساعدات التنموية لمشروعات إعادة إعمار أبخازيا، فضلاً عن التصدي لمشكلة إقليم أوسيتيا الجنوبية الانفصالية أيضاً. وعلى الولايات المتحدة بذل جهد إضافي لتدويل المفاوضات حول الوضع الروسي-الجورجي، بما فيه قوات حفظ السلام الروسية في أبخازيا ومشكلة أوسيتيا الجنوبية. على أن تبديد مخاطر نشوب المواجهة العسكرية بين موسكو وجورجيا، يتطلب من أميركا والاتحاد الأوروبي، إعطاء الأولوية العاجلة لحل مشكلة إقليم أبخازيا. كنيث يالوفيتز ووليام كورتني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ سفيران سابقان للولايات المتحدة الأميركية في جمهورية جورجيا ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"