منذ الحرب العالمية الثانية، أدى نشاط أميركا الحربي إلى نشوء ثلاث أزمات لاجئين كبرى غير مقصودة: أولاها أزمة لاجئي الهند الصينية في جنوبي شرق آسيا، وثانيتها أزمة الأكراد العراقيين، ثم أزمة اللاجئين العراقيين الذين شردهم الغزو الأميركي عام 2003. فخلال عقديْ السبعينات والثمانينات، وعلى إثر نهاية حرب فيتنام، تشرد نحو مليوني لاجئ من فيتنام وكمبوديا ولاوس، جراء أعمال العنف والجوع والقهر السياسي، طلباً للإقامة في تايلاند وغيرها من دول المنطقة. وفي التصدي المباشر لتلك الأزمة، بادرت الولايات المتحدة إلى الدعوة لعقد قمتين رعتهما الأمم المتحدة حول موضوع اللاجئين. وإلى جانب المساعدات الاقتصادية الكبيرة التي تلقاها اللاجئون والدول المضيفة لهم، بفضل التوصيات التي تمخض عنها المؤتمران المذكوران، بادر صناع السياسات والقرارات في واشنطن بتذليل الإجراءات اللازمة لإعادة توطين 1.2 مليون من أولئك اللاجئين في أميركا. ثم نشأت في عام 1991 أزمة لاجئي الأكراد العراقيين عقب حرب الخليج الأولى، فحينها فر حوالي نصف مليون كردي أمام بطش صدام حسين، لانتفاضتهم عليه بإيعاز وتشجيع ووعود دعم حنثت بهما واشنطن، ولجأ أغلب هؤلاء إلى المناطق الجبلية الواقعة على المنطقة الحدودية المشتركة مع تركيا، حيث يقيم عدد كبير منهم إلى اليوم، بينما فر نحو مليون آخر إلى بعض المخيمات الإيرانية. لكن الذي حدث هو أن واشنطن وحلفاءها أرغموا صدام حسين على التراجع عن حملته، مما فتح الطريق أمام عودة اللاجئين الأكراد تارة أخرى إلى حيث يقيمون أصلاً في شمال العراق. وهناك توفرت لهم الحماية الدولية، بإعلان إقليم كردستان منطقة يحظر فيها الطيران العراقي. وبفضل تلك الحماية تحول الإقليم إلى أكثر مناطق العراق ازدهاراً اليوم. وبعدُ فماذا نحن فاعلون بأزمة اللاجئين العراقيين حالياً؟ لقد أسفر غزونا للعراق عن تشريد 4 ملايين عراقي منذ عام 2003، بمن فيهم مليونا شخص يواجهون ظروفاً بالغة الصعوبة خارج بلادهم. ومع ذلك سمحنا لأنفسنا أن يقع عبء ضيافتهم كله على سوريا والأردن المجاورتين، رغم ما تنطوي عليه هذه الأزمة من عوامل مزعزعة للاستقرار الإقليمي بأسره. ومع أن بلادنا قدمت بعض الدعم لإيواء اللاجئين في عدد من الدول، فإنه لم يشمل سوريا، بينما لم تفتح أميركا أبوابها إلا لإعادة توطين شريحة تقل عن 10 آلاف شخص، وهو عدد أقل بكثير مما أعادت توطينه السويد التي لم تكن طرفاً في الغزو!. وطوال خمس سنوات بعد شن حربها، أخفقت الولايات المتحدة في جعل قضية اللاجئين العراقيين محل اهتمام قومي أو دولي، ولم تمنع على مسؤوليها الحكوميين الثانويين تولي إدارة هذه الأزمة فحسب، بل تباطأت كثيراً في تقديم العون المالي اللازم للتخفيف من صعوبة الظروف التي يعانيها ضحايا الحرب. ورغم أن ميزانية العون المالي المخصصة للاجئين هذا العام، والتي تجاوزت 200 مليون دولار، تعد الأكثر سخاءً، فإنها لا تمثل سوى 25% من الميزانية المطلوبة لتلبية احتياجات اللاجئين، حسب وكالات الغوث الإنساني. وقد حذر المفوض السامي لشؤون اللاجئين في الأمم المتحدة، الشهر الماضي، من دنو جفاف الموارد المالية لمفوضيته بحلول شهر أغسطس المقبل. فما الذي يفسر إذن هذا التباين الكبير في ردود الفعل الأميركية الرسمية على هذه الأزمات الثلاث؟ أول التفسيرات: الدور القيادي الحاسم الذي يلعبه البيت الأبيض في التصدي لمثل هذه الأزمات. فقد أبدى كل من الرئيسين السابقين جيمي كارتر وجورج بوش الأب، اهتماماً شخصياً، بل نشطاً في تعبئة الحكومة وعامة الجمهور معاً من أجل التصدي للأزمتين المذكورتين في مراحلهما المبكرة. واتخذ كارتر حينها القرار الصعب، بسماحه بإعادة توطين العدد الأكبر من لاجئي حرب فيتنام في الولايات المتحدة. أما في الأزمة العراقية الماثلة حالياً، فليس ثمة دور يذكر للبيت الأبيض في التعبئة العامة لمواجهة مشكلة اللاجئين. ثاني التفسيرات: الشعور بالذنب أو الندم إزاء أزمة إنسانية تسببت فيها الولايات المتحدة. ففي أزمة لاجئي حرب فيتنام كان مفهوماً أنه لن تعيد واشنطن جنودها مرة أخرى إلى فيتنام من أجل حل الأزمة، إلا أنها فعلت أقصى ما في وسعها للتخفيف من وطأة المعاناة الإنسانية الناشئة عن الحرب. وقد تكرر الشيء نفسه في حرب الخليج الأولى، التي غامر فيها الأكراد بالانتفاض على صدام حسين، بإيعاز من واشنطن. وبالمقارنة، لا تبدي إدارة بوش الحالية شعوراً بالذنب أو الندم إزاء أزمة اللاجئين العراقيين الحالية الناشئة عن غزوها بلادهم. ثالثاً: انصراف اهتمام الصحافة الأميركية والدولية عن أزمة لاجئي العراق هذه المرة. وربما يفسر عدم الاهتمام هذا جزئياً بطبيعة الظروف التي يعيشها لاجئو العراق. فهؤلاء ليس حالهم مثل لاجئي إقليم دارفور السوداني، الذين تجذب الأوضاع اللاإنسانية في معسكراتهم، أضواء العالم وكاميراته وأقماره الاصطناعية لرصد أوضاعهم وتصويرها وبثها بكافة الطرق والوسائل. وبالمقارنة يتكدس لاجئو العراق بمجموعات كبيرة وغير ملائمة في الأحياء السورية والأردنية، ويعتمدون في حياتهم اليومية على "عطايا" دولية غير كافية، أو على مدخراتهم المتناقصة، أو على العمل غير القانوني. ورغم الإهمال الذي وُوجِهت به هذه الأزمة الإنسانية، فإن من الواجب الالتفات إليها والقيام بما يلزم من واجب إنساني وأخلاقي إزاء ضحاياها. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ مورتون أبراموفيتز زميل أول في "مؤسسة سينشري"، وسفير أميركي سابق في تايلاند وتركيا. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"