عندما يجد التاجر أن السّعر الذي يشتري به البضاعة هو في ازدياد، فإنه يلجأ إلى الشراء بالجملة بدلاً من الشراء بالتجزئة. إنه ليس معنياً بعملية إنتاج البضاعة، وهو في أغلب الأحوال ليس قادراً على التأثير في مكوّناتها. هذا المنطق التجاري البسيط لا يستطيع مواجهة مشكلات الغلاء والتضخم والنٌّدرة... التي تواجهها دول مجلس التعاون الخليجي حالياً، والمرشَّحة للازدياد في المستقبل القريب. لذلك فالعنوان الكبير الذي تصدَّر قرارات غرف تجارة وصناعة دول مجلس التعاون بشأن مواجهة الغلاء، والقاضي بمحاولة الشراء الموحَّد للبضائع من قبل الدول السِّت، يجب أن يصبح عنواناً صغيراً فرعياً متواضعاً. إنه عنوان لمعالجة تجارية وليس لمعالجة اقتصادية سياسية. وحتى إحالة الموضوع إلى المجلس الاستشاري لدول مجلس التعاون، وهو على أي حال ليس مجلساً متخصصاً ولا مسموع الكلمة ولا منسجماً من الداخل، لن يستطيع الابتعاد عن الإشارة بالإصبع إلى السبب الرئيسي وراء هذا الجحيم الاقتصادي الذي يراد إدخال العالم كله في أتونه. إن القاصي والداني يشيران بأصابع الاتهام إلى المسؤول المتواطئ القابع في واشنطن ونيويورك. فقرار تخفيض قيمة الدولار إلى أدنى مستوى ممكن، وحتى حافة الخطر، وإمكانية الانزلاق في وديان الأهوال... هو قرار أميركي. والارتفاع المتواصل في أسعار النفط، كجزء من أهداف استراتيجية أميركية كبرى، يعرفه الجميع. فالهدف هو تآكل المدَّخرات الصِّينية والروسية التي هي جميعها بالدولار، وإرباك الاقتصادات المنافسة، كالاقتصادين الصيني والهندي، من خلال الارتفاع القياسي المتزايد لأسعار الطاقة، ودفع مؤسسات الإنتاج والخدمات في كل البلدان المنافسة لدفع أجور أعلى لعمَّالها ومستخدميها للتخفيف من آثار الغلاء والتضخُّم عليهم، وبالتالي إضعاف قدراتها التنافسية للتصدير والاستثمار. وهناك من يشير إلى أن وراء كل ذلك، ليس رجال السياسة الأميركيون من المنتسبين لليمين المتطرف فحسب، وإنما أيضاً مالكو البنوك وشركات الاستثمار الأميركيون والمتعاونون معهم في عواصم العالم المختلفة. إن القضية قد أصبحت بالغة التعقيد وبالغة الاتساع وبالغة الخطورة، على الاقتصاد العالمي برمَّته، وبالتالي فمواجهتها ستحتاج إلى قرارات اقتصادية سياسية من أطراف كثيرة في العالم. وفي القلب من هذه القرارات خطوات يجب أن يقوم بها العرب، وفي مقدمتهم دول مجلس التعاون. المطلوب، وبسرعة؛ التفكير في الآتي: 1- اتّباع الخطوة الكويتية بفكّ ارتباط العملات المحلية بالدولار الأميركي. إنها لحظة تاريخية تحتاج إلى قرار تاريخي. 2- إضعاف التأثير الأميركي في قرارات تسعير النفط، وإبعاد هذا الموضوع برمَّته عن أن يكون أداة ً طيّّّّّّّّّّعة في خدمة الأهداف الأميركية. 3- إخراج دول النفط العربية من الالتزام العبثي القائل بأن فوائضها البترولية يجب أن يعاد صرفها في دعم الاقتصادات الغربية بأشكال لا حصر ولا عدّ لها؛ كشراء السَّندات والأسهم والبضائع والأسلحة والخدمات. 4- محاولة النظر إلى المشروع الأميركي -الصهيوني، لا بإرادة الاستسلام وإنما بإرادة النديَّة، وعدم العطاء إلاً مشفوعاً بالأخذ. إن التعامل مع أهمية البناء الإقليمي القومي العربي، في الاقتصاد والسياسة والأمن، بالخفَّة السابقة، أصبح غير مقبول بل أصبح كارثياً على الجميع. كما أصبح السماح لأميركا بأن تجرَّ العرب في صراعاتها، من قبيل دعم أميركا في حساباتها الدولية التي لا تخصُّنا. قد تكون مشكلة العالم مع أميركا، هي ما تجرٌّه عليه سياساتها الصراعية ضد أعدائها الحقيقيين والمتوهمين في آسيا وأوروبا، من ويلات اقتصادية وأمنية. أما مشكلتنا مع أميركا فأكبر وأعقد. لقد اختارت أميركا أن تكون خادماً للمشروع الصهيوني، وبالتالي فالتصدي للعبتها الشيطانية بزج الاقتصاد العالمي في الهاوية، يجب أن يكون جزءاً من استراتيجيتنا في التحرر من هيمنتها ومن السماح لها باستعمالنا في تنفيذ مغامراتها المجنونة! د. علي محمد فخرو