كانت باكستان على مدى السنوات القليلة الماضية مصدراً للأخبار السيئة إلى درجة أنه قد يبدو من غير الواقعي القول إن الجو الحالي في البلاد يبعث على الأمل. والحال أن هذا هو الانطباع الذي يتكون لدى كثير من زوار باكستان، التي توصف في كثير من الأحيان من قبل وسائل الإعلام الأميركية كأخطر مكان على وجه البسيطة. أما السبب الرئيسي لهذا الجو الجديد، فهو عودة العملية الديمقراطية بصفة نشطة، وما يعتقد على نطاق واسع أنها نهاية لعقد من الحكم العسكري. فبعد أقل من شهرين على اغتيال زعيمة المعارضة بينظير بوتو، تمكن حزبها (حزب الشعب الباكستاني)، ومعه حزب خصمها الأساسي، رئيس الوزراء الأسبق نواز الشريف (حزب الرابطة الإسلامية)، من تحقيق انتصار كاسح في الانتخابات البرلمانية التي وُصفت عموماً بأنها كانت نزيهة؛ فشكلا نسخةً باكستانية لائتلافٍ كبير يتزعمه "حزب الشعب". والواقع أن انتصار هذين الحزبين، وهما قوتان سياسيتان لهما قاعدة وجاذبية شعبيتان واسعتان، ليس سوى نصف القصة. أما النصف الآخر، فيعادل الأول من حيث الأهمية ويكمن في انسحاب الجيش من الساحة السياسية، انسحاباً مؤقتا على الأقل فيما يبدو، وذلك بعد أن حصل حزب الرئيس برويز مشرف على أقل من 20% من مقاعد "الجمعية الوطنية" المنتخَبة حديثاً. ولأن قاعدة سلطة مشرف الحقيقية كانت مرتبطة بمنصبه العسكري كقائد أعلى للجيش، فقد تبين بعد أن "خلع بزته" العام الماضي، أن سلطته المتبقية كرئيس للبلاد بروتوكولية إلى حد كبير، بل ربما بات "مثل ملكة انجلترا"، وفقاً لبرلماني جديد ومتحمس. وكان القائد الجديد للجيش الجنرال "إشفاق كياني" قد شدد على ضرورة أن يبقى الجيش بعيداً عن السياسة. وعليه، يمكن القول إن هذا ربما يشكل أكبر وأهم خبر على الإطلاق في بلد درج فيه الجيش على التدخل في العملية السياسية منذ تأسيس الدولة عام 1947... إذا كان "كياني" وزملاؤه يقصدون ما يقولون! فالجيش الباكستاني له دور مركزي وأساسي ليلعبه بخصوص أمن باكستان، وليس في الساحة السياسية. ومن البشائر الأخرى التي تبعث على الأمل في باكستان، النتائجُ الضعيفة للأحزاب الدينية في انتخابات فبراير الماضي، ذلك أنها لم تحصل سوى على 4% من مجموع الأصوات، إذ لم تسجل هذه الأحزاب نتائج جيدة في المناطق القبلية المضطربة، حيث تتحصن "طالبان" و"القاعدة" من عمليات "الناتو" في أفغانستان. وبالطبع ذلك لا يعني أن المناطق الحدودية باتت خالية من الإرهابيين، فنهم ما زالوا يتحصنون بوديان وبلدات غرب باكستان، ويشكلون تهديداً حقيقياً للقوات الأميركية وقوات "الناتو" في أفغانستان. ولذلك فإن مواجهتهم تتطلب برنامجاً كبيراً يزاوج بين الأمن والتنمية ويتجاوز المخطط الحالي الذي يتضمن حوالي 150 مليون دولار من المساعدات الأميركية في السنة. وبعد أن زرتُ المناطق الحدودية الأسبوع الماضي، أعتقد أن نقطة البداية ينبغي أن تكون "حرس الحدود" الذين ينبغي تدريبهم وتحسين مستواهم ومدهم بعتاد أفضل. فهذه القوة القديمة، التي أنشأها البريطانيون في القرن التاسع عشر، لا يتعدى عدد أفرادها 50000 رجل، وذلك في وقت تواجه فيه "طالبان" ومجموعات متمردة محلية مسلحةً تسليحاً جيداً. بعبارة أخرى، فإن الجبهة الشرقية من الحرب الأميركية في أفغانستان تستحق، بدون شك، أكثر من 150 مليون دولار سنوياً. لقد ارتكب نظام مشرف أخطاء فادحة في المناطق القبلية، والواقع أن مشرف نفسه يعترف بأن اتفاق السلام الذي عقدته حكومته مع المناطق القبلية عام 2006، كان كارثة منحت "طالبان" امتيازاً كبيراً في المناطق القبلية الباكستانية، وساهم كثيراً في إضعاف جهود "الناتو" في أفغانستان، وإن كانت الولايات المتحدة قد أيدت الاتفاق ساعتها، في إطار سياساتها الداعمة لمشرف! بيد أنه من المبالغة القول إن المحاربين في المناطق القبلية، يشكلون تهديداً لبقية باكستان. فصحيح أن مشاكل باكستان، بما في ذلك الإرهاب، كبيرة وعديدة، وهي تلقي بظلال من الشك حول مستقبل البلاد. غير أن ثمة نقطتين مضيئتين؛ أولاهما هي تحسن صامت للعلاقات مع الهند خلال السنوات الأخيرة، أما الثانية فهي أن باكستان التي تعد ثاني أكبر بلد إسلامي، هي كبيرة جداً بمجتمعها المدني وأحزابها السياسية، وصحافتها الحرة، ومحاميها النشطين، ومنظماتها غير الحكومية التي تعد بالآلاف، وقطاع أعمالها الكبير، وزعمائه المسلمين المعتدلين... ومن جهة أخرى، يتابع الباكستانيون المتعلمون حملة الانتخابات الرئاسية الأميركية باهتمام كبير. وبغض النظر عمن سيفوز في هذه الانتخابات، فإنهم سيستمرون في النظر صوب واشنطن ومتابعة ما يجري هناك. وعلى سبيل المثال، فقد أخبرني "عاصف علي زارداري"، زوج الراحلة "بوتو" وخليفتها في زعامة "حزب الشعب الباكستاني"، بأن صداقة زوجته برئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي، كان لها دور كبير في اختيار امرأة لتكون رئيسة "الجمعية الوطنية" في باكستان. منذ عقود عدة، ترسل واشنطن إشارات مختلطة إلى باكستان، لكن الرسالة هذه المرة ينبغي أن تكون واضحة ومتناسقة: الديمقراطية، والمصالحة، وابتعاد الجيش عن السياسة، وسياسية جديدة في المناطق القبلية، ومزيد من الديمقراطية. ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"