احمرت ملايين العيون على نطاق العالم من فرط المشاهدة التلفزيونية المستمرة لإحدى أكثر المعارك السياسية إثارة في التاريخ الأميركي، والتي ربما يقدر للنتائج التي ستسفر عنها، أن تعيد تشكيل علاقات واشنطن مع بقية دول العالم. فمع توقع مغادرة الرئيس بوش للبيت الأبيض بحلول عام 2009، بالكاد يستطيع العالم الخارجي انتظار حلول هذه اللحظة، ومثلهم ينطبق الأمر على الكثير -إن لم يكن معظم- الأميركيين. وبحلول موسم الخريف المقبل أي قريباً جداً، سوف يتعين على كلا الحزبين الرئيسيين اختيار من سيخوض عنه المعركة الانتخابية الرئاسية الفاصلة: إما باراك أوباما أو هيلاري كلينتون عن الحزب "الديمقراطي"، مع ترجيح فوز السيناتور "جون ماكين" بمعركة الترشيح الحالية عن حزبه "الجمهوري". وجميع هؤلاء المرشحين الثلاثة أذكياء، وكلهم منشغل بإطلاق الوعود والأماني لجمهور الناخبين، مثلما تنطلق الرصاصات من فوهات المدافع والبنادق: وعود بإصلاح النظام الصحي المنهار، وعود بإنقاذ نظام الضمان الاجتماعي، وعود بتحسين التعليم ورفع مستواه، وعود بإنشاء المزيد من الوظائف والحد من آثار البطالة، وعود بتغيير النظام الضريبي الحالي، وعود بحماية الأمة من هجمات إرهابية محتملة، ثم كثير من الوعود والأماني بإصلاح اقتصادنا القومي المعطوب. على أن المرجح هو أنه لن يكون في وسع أي من هؤلاء المرشحين الذين يسوقون الأماني والوعود للناخبين، تحقيق النزر اليسير مما يسوقونه الآن، في حال انتخابه رئيساً للبلاد. فعلى سبيل المثال، لا بد لأقوى رئيس أميركي محتمل –إن حدث في التاريخ- أن يحصل على دعم الكونجرس والأجهزة الحكومية الإدارية ذات الصلة، وكذلك وسائل الإعلام والاتحادات المهنية والنقابية، إلى جانب حصوله على دعم العشرات من مجموعات الضغط المختلفة وغيرها من مراكز القوى والنفوذ، التي تتراوح بين المنظمات المهنية المحترفة والمجموعات الدينية، قبل تمكنه من إحداث أي تغيير يرغبه. وقلما تيسرت لعملية صنع القرار أن ترتقي إلى مستوى السرعة التي يتطلبها إحداث التغيير في أي مجتمع ما. بل كثيراً ما يطرأ تغيير على دوافع ومسببات التغيير المطلوب نفسها، بحلول اللحظة التي تصطف فيها القوى الراغبة في التغيير، ضد العقبات التي تعترض طريقها. وعليه ففي الغالب الأعم ستأتي النتائج الأخيرة للتغيير، أدنى من الأماني والوعود المباعة بكثير. وقد أسرف كل واحد من المتسابقين الرئاسيين في الحديث على نحو درامي مثير، عن الحاجة إلى "التغيير" بطريقة أو بأخرى. غير أنه يمكن استقصاء الكثير من التغييرات التي تحدثوا عنها، وردها إلى عدة رؤساء سابقين. فالسيناتور جون ماكين –شأنه شأن الكثير من زعماء الحزب الجمهوري- دعا إلى خفض الضرائب وتقليص الجهاز الحكومي، أي إلى سياسات توازي بشكل ما "القانون الضريبي للانتعاش الاقتصادي" لعام 1981، الذي كان قد دفع به إلى مجال التشريع وسن القوانين، الرئيس الأسبق رونالد ريجان في وقت مبكر من بداية إدارته. وبالمثل كانت التغييرات التي أحدثها ريجان شبيهة بما يعرف بـ"تخفيضات ميلون الضريبية" للعقد العشرين من القرن الماضي. أما في جانب الحزب الديمقراطي، فما أشبه مقترحات متسابقيه الرئاسيين الخاصة بوضع حد لأزمة النظام الصحي الراهنة، بتلك المبادرات التي اجترحها الرئيس الأسبق "ليندون جونسون" في ستينيات القرن الماضي، وهي ذات المبادرات التي تعود جذورها إلى عقد الثلاثينيات وإدارة الرئيس الأسبق "فرانكلين روزفلت". وكثيراً ما سمع الناخبون الأميركيون من المرشحين الرئاسيين عن تواتر عدة أزمات معاً: أزمة في الطاقة، وعيوب في النظام الصحي، ومشكلة في النظام التعليمي، ومعضلة في النظام المالي، إلى جانب أزمة وانهيار النظام السياسي، حسبما يراها الكثيرون. لكن وعلى رغم كثرة الحديث عن متتالية الأزمات هذه، لم يبادر أي من المرشحين الرئاسيين الأساسيين، إلى تبيان حقيقة أن هناك نسقاً واحداً يجمع بينها جميعاً، أي كونها جزءاً من أزمة بنيوية أكبر وأوسع نطاقاً. بعبارة أخرى فإن هذه الأزمات ليست سوى مظاهر لأزمة تحولية كبرى واحدة، تلقي بظلالها على كافة مناحي الحياة الأميركية. والشاهد أن الولايات المتحدة تمر بمرحلة سكرات موت نمط الإنتاج الصناعي، وإبداله بنظام اقتصادي اجتماعي مغاير، قوامه المعرفة. ويتسم هذا النظام الجديد بعلاقات مغايرة بين الجنسين والأعمار والبنى العائلية الجديدة، فضلاً عن تميزه بأشكال تنظيمية ثقافية غير مسبوقة. وبالطبع فإن كافة هذه المؤسسات والترتيبات الاجتماعية الجديدة، لم تتساوق مع بعضها البعض بعد. إلا أن الدليل الأكثر إثارة للدهشة على اضمحلال النظام الصناعي هذا، لا تقتصر ملاحظته على خواء مصانع الحديد الصلب فحسب، ولا على انحسار وظائف ذوي الياقات الزرقاء وحدها. والحق أن البيروقراطية هي الشكل الكلاسيكي لتنظيم العمل في العصر الصناعي، وقد أدت دورها خير ما يكون الأداء في اقتصاد قائم على المداخن وخطوط الإنتاج التقليدية. بيد أنه لا سبيل للبيروقراطية الواسعة هذه بشكلها الكلاسيكي المتعارف عليه، أن تواكب وتيرة وسرعة وتعقيد مجتمع أميركا ما بعد العصر الصناعي. والدليل هو الفشل الذريع الذي حاق بالبيروقراطيات العملاقة سواء في القطاع العام أم الخاص، مثلما رأينا ونرى اليوم. وإن أردت بعض الأمثلة فلك أن تنظر إلى الخيبات المتتالية التي لحقت بوزارة الأمن الوطني، وهي مؤسسة بيروقراطية عملاقة جرى تشكيلها عقب هجمات 11 سبتمبر، وتتألف من 22 وكالة استخباراتية وأمنية صغيرة تابعة، ثم ابتلعت في سياق تضخمها "وكالة إدارة الطوارئ الفيدرالية" نفسها. لكن وما أن ضربت الأعاصير والفيضانات مدينة نيوأورليانز ودمرت الجزء الغالب منها في عام 2005، مخلفة وراءها ما يزيد على ربع المليون من السكان النازحين بلا بيوت أو مأوى، حتى عجزت الحكومة الفيدرالية في واشنطن، عن التنسيق مع الإدارة البيروقراطية المحلية على مستوى ولاية لويزيانا، التي عجزت بدورها عن التنسيق مع البيروقراطية المحلية في المدينة المنكوبة. والأسوأ من ذلك كله، أن ما يقارب الـ35 ألفاً من نازحي المدينة الذين تم إيواؤهم مؤقتاً في القاطرات، ربما كانوا عرضة لحالات ومستويات متباينة من درجات التسمم بسبب إقامتهم في القاطرات هذه، على حد ما أعلنت للتو "مراكز مكافحة الأمراض" في تقرير صحي لها صدر مؤخراً. وما هذا سوى مثال واحد نسوقه عن خيبة المؤسسات البيروقراطية في شتى مستويات الحكم الأميركي، وكذلك في القطاع الخاص. كما يحتدم جدل المرشحين الرئاسيين حول عدة قضايا، إلا أن واحداً منهم لم يخطُ قيد أنملة لصوغ هذه القضايا مجتمعة في نسق واحد وأكثر شمولاً واتساعاً، بما يمكن الناخبين من فهم الذي يجري في بلادهم على وجه التحديد. فبدلاً من توخي الوضوح والصراحة مع الناخبين، والقول لهم إن مجتمعهم لم يعد مجتمعاً صناعياً مثلما كان عليه من قبل، ها أنت تراهم يتبارون في الدعوة إلى إعادة الوظائف الصناعية القائمة على التكنولوجيا المنخفضة، التي تم تهجيرها إلى الصين والهند وغيرهما من الدول ذات العمالة الرخيصة. وكم تصيبك الدهشة والعجب وأنت تستمع إلى المرشحين الرئاسيين، وهم يتحدثون عن اضمحلال الوظائف الصناعية، وكأنها ظاهرة جديدة وحديثة النشأة! وربما كانت هذه الانتخابات، لكل ما حظيت به من زخم سياسي وإعلامي، ولكل ما اتسمت به من أهمية بالغة، فرصة تاريخية ملائمة لتوفير خريطة متماسكة للناخبين، تمكنهم من معرفة التغييرات المتشابكة المتلازمة المطلوب إحداثها، بغية استكمال الانتقال الذي تمر به بلادهم، من عصر المجتمع الصناعي، إلى مرحلة ما بعد المجتمع الصناعي. وعلى الساسة الأميركيين مواجهة هذه الثورة الاقتصادية الاجتماعية الجارية، التي تهز النظام القائم وتخلخل أركانه... فذاك هو التغيير السياسي الفعلي. ألفين توفلر ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب أميركي متخصص في المستقبليات ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع "تريبيون ميديا سيرفيز"