العالم يريد عودة أميركا، وخلال الأعوام القادمة سيتم إعادة صياغة السياسات العالمية بناء على معطى جديد هو الشوق الشديد للقيادة الأميركية. هذا التوجه غير متوقع بقدر ما هو حتمي: غير متوقع، إذا ما أخذنا في اعتبارنا المشاعر المعادية لأميركا في مختلف أنحاء المعمورة، وحتمي إذا ما أخذنا في اعتبارنا الفراغات التي حدثت في الساحة الدولية، والتي لا يمكن ملؤها سوى بواسطة الولايات المتحدة. وهذه الشهية الدولية المتجددة للقيادة الأميركية، لن تنتج فقط عن انتخاب رئيس أميركي جديد- وإن كان وجود قاطن جديد في البيت الأبيض سيساعد في ذلك من دون شك- ولكنها نتجت عن عقد كامل من فك الاشتباك والانصراف الأميركي عن مشاكل العالم، وهو ما أدى إلى تفاقم المشكلات الإقليمية. والدولة التي تمتلك الإرادة والوسائل للتدخل والعمل بفعالية من أجل حل هذه المشكلات هي الولايات المتحدة في غالبية الأحايين. من المؤكد أن المشاعر المناوئة لأميركا لن تختفي، وأن أعداءها لن يتوقفوا عن مناصبتها العداء، ولكن ما هو متوقع حدوثه في الأعوام القادمة، هو نوع من التوجه الذي سيتزايد تدريجياً للتعايش بين التيارات القوية المعادية لأميركا، وبين المطالب الدولية المماثلة في القوة، التي تطالب واشنطن بلعب دور أكبر في الشؤون الدولية. من المؤكد كذلك أن أميركا التي يريد العالم عودتها ليست هي أميركا التي تستبق الأعداء المحتملين في العمل، وتقوم بغزو دولهم، ولا هي أميركا التي تمارس البلطجة على حلفائها، أو تتعالى على القانون الدولي، وإنما أميركا التي تستنفر الدول الأخرى، التي قد تميل للجلوس خارج الخطوط في الوقت الذي تتفاقم فيه الأزمات الدولية، وتخرج عن نطاق السيطرة للعمل والمساهمة في حل تلك الأزمات. إن ثمة حاجة لقوة عظمى لديها القدرة على التوصل لمبادرات خلاقة لمعالجة التحديات الكبرى الموجودة في العالم اليوم، كالتغير المناخي، والانتشار النووي، والتيارات الأصولية الإسلامية العنيفة. وسيكون الطلب خلال السنوات القادمة على أميركا التي تتمتع بالقدرة على فرض القواعد والقوانين، وتسهيل التجارة الدولية، وعلى العمل الفعال من أجل تحقيق الاستقرار في الاقتصاد العالمي المعرض للهزات والأحداث المفاجئة. ومن الطبيعي أيضاً أن يكون العالم بحاجة إلى قوة كبرى لديها الرغبة في تسديد الفواتير المؤجلة بنوع من السخاء الذي تستطيعه أميركا وتعجز عنه الأمم الأخرى. وهذه التوقعات ليست ساذجة كما قد يتبادر للأذهان... لماذا؟ لأن الزعماء العالميين يعرفون جيداً، أنه حتى في أفضل الأحوال، لن يكون الرئيس الأميركي المقبل، قادراً على الإنجاز في كل هذه القضايا، كما يفهمون أيضاً أن القيادة الأميركية لن تتحقق من دون ثمن، وأن الولايات المتحدة ستكون مضطرة لدفع ثمن باهظ من أجل الظفر بها. إن الظهور بمظهر الحليف الوثيق للولايات المتحدة يعتبر مشروعاً خطراً لأي سياسي منتخب في أي مكان في العالم، ومع ذلك فإننا نجد أن بعض هؤلاء الساسة يظهرون استعداداً مدهشاً للوقوف مع الولايات المتحدة الأميركية. علينا أن نتذكر، في هذا الصدد، ما حدث في شهر مارس الماضي عندما سافر الرئيس بوش إلى أميركا اللاتينية، وهي قارة كانت الولايات لمتحدة قد تجاهلتها إلى حد كبير. بالنسبة للكثيرين، كان الرأي السائد أن هذه الرحلة ستكون غير ذات أهمية لسبب بسيط ، وهو أن بوش لم يكن لديه عرض متماسك يستطيع أن يقدمه. ومع ذلك فإن جميع زعماء دول أميركا اللاتينية الذي طُلب منهم استضافة هذا الرئيس الذي يُشار إليه بأنه بطة عرجاء، والذي لم يكن لديه عرض متماسك كي يقدمه، والمثير للجدل لأنهم وافقوا على ذلك الطلب. ليس هذا فحسب بل إن بعضهم بذلوا محاولات حتى يشمل بوش دولهم بهذه الزيارة. هنا قد يقفز إلى الذهن سؤال: ما هي المصلحة التي رأى هؤلاء الزعماء أنهم سيتمكنون من تحقيقها من خلال رحلة بوش؟ إن هذا الشيء تحديداً هو الأمل... نعم الأمل الذي راودهم جميعاً في إمكانية إقناع هذه القوة العظمى بعمل شيء من أجلهم. لتوضيح ذلك يكفي أن نعرف أن الرئيس البرازيلي اليساري "لويس لولا دا سيلفا" على سبيل المثال، وهو صديق شخصي لعدو بوش اللدود "هوجو شافيز"، قد سعى إلى الاستفادة من رحلة بوش من خلال إقناعه بتقديم المساعدة لبلاده من أجل تطوير صناعة الإيثانول في البرازيل. في تركيا، كما في البرازيل، كان السكان يتبنون موقفاً معارضاً بشدة للولايات المتحدة، ومع ذلك رأينا رئيس الوزراء التركي "رجب طيب أردوغان" يعمل على خطب ود الإدارة الأميركية علناً، لأنه كان يعرف أن الولايات المتحدة هي أفضل حليف يمكن أن يساعد بلاده في الانضمام للاتحاد الأوروبي. و"لولا دا سيلفا"، و"أردوغان" ليسا سوى اسمين في قائمة طويلة من الزعماء الذين يدركون جيداً أن الولايات المتحدة قد تستخدم أحياناً أسلوب اليد الثقيلة، لأن البديل عن ذلك الأسلوب قد يكون أسوأ بكثير. لذلك نرى أن الكثيرين من قادة دول العالم يكونون في كثير من الحالات على استعداد لدفع ثمن التقارب مع أميركا والتحالف معها، والسماح لها بتولي زمام القيادة. وكل ما يطلبه هؤلاء القادة عادة هو ألا يعني تسليمهم بالقيادة الأميركية الخضوع لنزوات مارد عالمي لديه من القوة أكثر مما لديه من العقل، وتتعرض شرعيته لتقويض مستمر، بسبب ما يبديه من تصرفات تنم عن عدم الكفاءة والجهل. على الرغم من أن استطلاعات الرأي التي كان يتم إجراؤها في الكثير من دول العالم، كانت تبين أن سمعة، ومكانة الولايات المتحدة قد تدهورت، فإن موقع "وورلد بابليك أوبينيان"، الذي قد بين من خلال استطلاع للرأي أجراه على الشبكة أن نفس السكان الذين لا يريدون أن تكون الولايات المتحدة هي قائدة العالم، يقولون في الوقت ذاته إنهم لا يريدون منها أن تنسحب من المشاركة في الشؤون العالمية، وإنما يريدون منها أن تلعب دوراً في حل مشكلات العالم، ويعتقدون أن العلاقات الثنائية بين دولهم وبين الولايات المتحدة تتحسن بشكل تدريجي. على نفس المنوال نجد أن الأميركيين هم أيضاً يتشوقون إلى أن تحظى بلدهم بالمزيد من الاحترام في الخارج. فهناك 69 في المئة من الأميركيين، يعتقدون أنه من الأفضل للولايات المتحدة أن تضطلع بدور فعال في الشؤون العالمية. وهذه الرغبة لا تقتصر على الشعب الأميركي، بل إن أحد كبار المسؤولين في إدارة بوش، وتحديداً وزير الدفاع "روبرت جيتس" قد دعا في الآونة الأخيرة إلى توجه جديد للفكر الأميركي في مجال الشؤون العالمية. وكان من ضمن ما قاله في هذا السياق:"إن النجاح في الخارج لن يعتمد على فرض الإرادة على الآخرين بقدر ما سيعتمد على الطريقة، التي سنتمكن بها من صياغة سلوك الأصدقاء والأعداء والأهم من ذلك كله هو الشعوب... إننا نريد إجراء زيادة جذرية في الإنفاق على الوسائل المدنية لتحقيق الأمن القومي الأميركي، وهي الدبلوماسية والاتصالات الاستراتيجية، والمساعدات الخارجية، والعمل المدني، وإعادة الإعمار، والتنمية الاقتصادية". معنى كل ما تقدم هو أن الطلب على نوع جديد من القيادة الأميركية قائم وموجود، لكن الشيء الجديد هو أن العرض الذي يرمي إلى الاستجابة لهذا الطلب سيكون قائماً وموجوداً أيضاً. مواسيه نعيم ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ رئيس تحرير مجلة "فورين بوليسي" الأميركية ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"