مما لاشك فيه أن احتجاج موظفي البعثات الدبلوماسية والقنصلية الأميركية على إمكانية إرسالهم بشكل إجباري إلى العراق، قصد تعويض النقص المسجل في عدد الموظفين المتطوعين هناك، سيواجَه بشعور بالإحباط من قبل جهات كالقوات المسلحة ووكالات مدنية أخرى تابعة للحكومة. ولكن رد دبلوماسيي أميركا، والإحباط الذي أصاب العسكريين بسبب شعورهم بأنهم وحيدون في هذه الحرب الطويلة، هما من أعراض مشكلة أعمق بكثير، وليسا من أسبابها. وللتذكير، فقد اشتكى المئات من الدبلوماسيين يوم الأربعاء الماضي من سياسة جديدة قد تكلفهم وظائفهم في حال رفضهم أداء مهمات في بغداد أو غيرها من المدن العراقية. وفي هذا الإطار، يقول موظف من البعثات الدبلوماسية والقنصلية: "أن يكون شخصٌ ما مقنعاً بما يجري في العراق ويتطوع بالذهاب إلى هناك شيء، أما أن ترسِله إلى هناك في مهمة إجبارية، فذاك شيء آخر"، مضيفاً "إنه بمثابة حكم بالإعدام وأنت تعلم ذلك. ثم من سيتولى رعاية أبنائك وتربيتهم في حال قُتلتَ أو أصبت إصابة خطيرة؟". يا له من سؤال وجيه بالفعل! وهو سؤال لاشك طرحه بصمت آباء الـ4000 موظف عسكري تقريباً الذين فقدوا أرواحهم، وطرحه الـ30 ألف جريح، الذين أصيبوا منذ اندلاع حرب العراق. لقد أجريتُ حوارات ومقابلات مع المئات من الجنود العائدين من العراق في إطار وظيفتي السابقة كمدير لقسم السياسات والبحوث في "معهد عمليات حفظ السلام والاستقرار" التابع للجيش الأميركي. ولعل أول شكوى يشترك فيها هؤلاء الموظفون هي: أين هم نظراؤنا المدنيون؟ الواقع أنه بغض النظر عما إن كان إرسال الموظفين الدبلوماسيين والقنصليين ينبغي أن يكون إجبارياً أم لا، فإن الأكيد هو أن هذا السؤال الجوهري سيظل مطروحاً لفترة طويلة بعد حرب العراق -والأكيد أن إيجاد جواب عليه ليس بالأمر السهل. والحقيقة أنه يمكن تفهم امتناع بعض الدبلوماسيين ممن عارضوا غزو العراق عن المشاركة في إعادة إعمار بلاد الرافدين، إلا أن بعض الموظفين العسكريين كانوا ضد الغزو أيضاً. فلو كانوا ينتقون مهماتهم، لكنا اليوم أمام أزمة مدنية- عسكرية. وتلافياً لأزمة مدنية- مدنية أيضاً، فإن موظفي البعثات الدبلوماسية والقنصلية يؤدون اليمين ويقسمون بالذهاب إلى حيث يُرسَلون. هناك بعض الاعتبارات العملية التي تجعل حساب الخطر الشخصي بالنسبة للدبلوماسيين مختلفاً عما هو عليه الحال بالنسبة لنظرائهم العسكريين. فبوليصة تأمين موظف من البعثات الدبلوماسية والقنصلية، مثلاً، تصبح لاغية في منطقة حرب -وهو ما يعد أمراً جسيماً بالنسبة لشخص لديه أسرة عليه أن يعولها. بيد أن المشكلة الأهم هي ذات طابع ثقافي؛ ذلك أن دبلوماسيينا غير معتادين على وضع أنفسهم في مناطق خطيرة. فمما لاشك فيه أن العديد منهم يعملون في أماكن مضطربة من العالم، ولكن ما يفسر حقيقة أن ثلاثة موظفين فقط من وزارة الخارجية لقوا حتفهم في العراق منذ اندلاع الحرب، هو أن جلهم لا يغادر أبداً أجواء الأمن والسلام النسبيين السائدة في المنطقة الخضراء. والحال أن الحرب الطويلة ستكون في حاجة متزايدة إلى الخبرات المدنية في "بيئات غير اختيارية" حيث يصادف المرء مفاجآت كثيرة قد يكون من ضمنها الرصاص المتطاير. والواقع أن معضلة "بلاك ووتر" لا تكشف سوى عن جزء صغير من الأسئلة الكثيرة بخصوص المدنيين الأميركيين العاملين في مناطق حرب. فهل ينبغي أن يكون سفير الولايات المتحدة في العراق، أو أي بلد آخر، مسؤولاً عن جميع الموظفين الحكوميين الأميركيين، بمن فيهم الموظفون العسكريون، حتى يمكنه أن يأمر بحماية الدبلوماسيين العاملين -لا أن يطلبها؟ وهل ينبغي أن يُمنح دبلوماسيونا الصلاحية والتدريبات والوسائل اللازمة للدفاع عن أنفسهم في "بيئات غير اختيارية"؟ ثم هل سيتطلب هذا التغيير في هذه الحالة إعادة النظر قانونياً في دورهم كـ"محاربين" بدلاً من عملهم كدبلوماسيين؟ جواب الدبلوماسيين التلقائي هذا الأسبوع يوحي بأن التغلب على الميل الثقافي لوزارة الخارجية سيكون أمراً صعباً، إن لم يكن مستحيلاً. غير أن ذلك ينبغي أن يكون بداية النقاش، وليس نهايته. وثمة خياران على الأقل: الأول، يمكن إنشاء قسم منعزل في وزارة الخارجية ويكون خاصاً بموظفي البعثات الدبلوماسية والقنصلية. والواقع أن "الهيئة المدنية الاحتياطية" التي يتم التفكير حالياً في إنشائها من أجل توفير مدنيين يرسَلون إلى مهمات في الخارج تمثل بداية جيدة، غير أنه مازال من الضروري تناول ومعالجة المشاكل الجوهرية التي لها علاقة بالثقافة السائدة في وزارة الخارجية عموماً. ويمكن أن يخلق هذا القسمُ ثقافةً جديدة عبر التوفر على بنيات وتوقعات تحفيزية مختلفة من بقية وزارة الخارجية، علماً بأن فصل هذا القسم عن بقية وزارة الخارجية أمر مهم وضروري حتى لا تقتله بيروقراطيةُ الوزارة المعهودة. الخيار الثاني: إذا كان المرء يعتقد أن قسماً من هذا القبيل سيضعف ويتآكل حتى قبل إقلاعه، فإنه ينبغي إنشاء "وكالة للعمل الميداني" لاحتضان الموظفين المدنيين خارج وزارة الخارجية. ويمكن أن يكون هؤلاء المدنيون خاضعين مباشرة للرئيس. ويستحسن أن يكون لرئيس "وكالة العمل الميداني" منصبٌ في الحكومة حتى يمنح الشبكة المدنية مزيداً من القوة. في الختام، لابد من التشديد على أنه لا يمكن للولايات المتحدة أن تستمر في خوض حروب القرن الحادي والعشرين بأدوات مدنية تعود للقرن العشرين. فقد آن الأوان للبدء في مناقشة الخيارات البديلة، داخل وزارة الخارجية أو خارجها، من أجل معالجة هذه الهوة في ترسانة السياسة الخارجية الأميركية. تامي سكولتز ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "لوس أنجلوس تايمز وواشنطن بوست"