في هذا الوقت الذي يحاول فيه بعض رموز النظام الحاكم في طهران إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، وإشغال المنطقة بقضية انتهت وحسمت نهائيا قبل 36 عاماً مضت بالتمام والكمال، عبر البيانات والتصريحات والمقابلات الصحفية الانفعالية المشككة في عروبة واستقلال وسيادة البحرين، من تلك التي تواصلت بلغة أشد عنترية إلى ما بعد زيارة وزير الخارجية الإيراني "منوشهر متكي" إلى المنامة يوم السبت الفائت... من الحري بنا أن نعود إلى الوراء لكي نتذكر الدور المحوري الذي اضطلعت به منظمة الأمم المتحدة لتأكيد عروبة واستقلال بلادنا، ولوضع حد نهائي للمزاعم والمطالبات الإيرانية، وبصفة خاصة المجهود الكبير الذي قام به مبعوث المنظمة ومدير مكتبها في جنيف حينئذ السنيور "فيتوريو وينسبير جيوشياردي". هذا النبيل الإيطالي، سليل العائلات الأوروبية المالكة، والذي لم يعد أحد في بلادنا يتذكر اسمه –يستوي في ذلك العامة والخاصة، المخضرمون والشباب –ويكتفي كثيرون اليوم بالإشارة إلى منصبه وطبيعة مهامه من دون اسمه. وهذا في اعتقادي إن لم يكن جحوداً مقصوداً فإنه بالتأكيد إهمال وتقصير غير مبرر، تتحمل مسؤوليته جهات مختلفة، من بينها وزارة التربية والتعليم التي لا تتضمن مناهجها، سواء الإشارة العابرة لظروف استقلال البحرين أو تأكيد عروبتها من دون الخوض في التفاصيل والوقائع والأحداث التاريخية ذات الصلة بالموضوع، ومن بينها أيضاً الجهات المسؤولة عن إطلاق الأسماء على الشوارع والميادين العامة في مدن المملكة، والتي تبدو كريمة جداً مع شخصيات وبخيلة جداً مع شخصيات أخرى! ولعله من نافلة القول إن الأمم المتحضرة لا تنسى الشخصيات التي لعبت دوراً في منعطفاتها التاريخية؛ سواء أكانت تلك الشخصيات محلية أو أجنبية، حيث تكرّمها في حياتها أو من بعد مماتها، وتقيم لها التماثيل في الميادين العامة أو تطلق أسماءها على الشوارع، تكريماً واحتفاءً، لتحفر بذلك تاريخ الوطن ولحظاته الحاسمة في عقول الأجيال المتعاقبة من أبنائها. ولو أن شيئاً من هذا حدث في البحرين مبكراً، لما كنا اليوم بحاجة لتذكير أجيالنا الشابة بأنه في يوم الثامن والعشرين من مارس 1970، وافق أمين عام الأمم المتحدة "البورمي يوثانت" على تعيين السنيور "جيوشياردي" كمبعوث شخصي له للذهاب على رأس بعثة من موظفي المنظمة الدولية إلى البحرين، لتقصي الحقائق حول تطلعات ورغبات شعبها، وأنه في يوم الحادي والثلاثين من الشهر نفسه، وصل "جيوشياردي" إلى مطار البحرين وهو على رأس فريق عمل أممي من أربعة موظفين من الجنسيات الفرنسية والايرلندية والهندية والأردنية للقيام بمهمته النبيلة، وأنه في يوم التاسع عشر من شهر إبريل عام 1970، أنهى الرجل وفريقه مهمتهم المضنية والدقيقة، بعد أن جالوا بحرية في مدن البحرين وقراها، وقابلوا فعالياتها السياسية والتجارية والثقافية والمهنية وزاروا مقار أنديتها وجمعياتها ومؤسساتها المدنية، مسجلين بأمانة وشفافية كل ما رأوه وسمعوه واستطلعوه واستنتجوه، ليعود "جيوشياردي" إلى جنيف ومنها إلى نيويورك ليقدم إلى الأمين العام للأمم المتحدة تقريراً تاريخياً يقول فيه "إن الأغلبية الساحقة من شعب البحرين ترغب في أن تنال الاعتراف بذاتيتها ضمن دولة مستقلة حرة ذات سيادة تقرر بنفسها شكل علاقاتها مع الدول الأخرى". هذا التقرير الأمين الذي عرض لاحقاً على مجلس الأمن وأقره بالإجماع في الحادي عشر من شهر مايو 1970، خلال جلسة حضرها مندوبو الدول الكبرى الخمس والدول غير دائمة العضوية وممثلون عن كل من البحرين وإيران والدول العربية، ليصبح وثيقة دولية حاسمة وقطعية، تعمي عيون المشككين والطامعين بوهج دلالاتها ومضامينها... الأمر الذي لم تجد إيران معه إلا القبول بالوثيقة وإرسالها إلى جمعيتها الوطنية (مجلس شوراي ملي) ومجلس شيوخها (مجلس سينا) للمصادقة، وهو ما تم على التوالي في الرابع عشر والثامن عشر من شهر مايو 1970. لم يعد "جيوشياردي" اليوم بيننا لنحتفي به ونكرمه، فقد رحل عن دنيانا في عام 1995، بعد أن قام بادوار دبلوماسية نشطة لا تقل أهمية عن دوره في قضية البحرين، ومنها على وجه الخصوص دوره كمبعوث للأمم المتحدة في قضية تيمور الشرقية. غير أن الوقت لم يفت بعد لإطلاق اسمه على شارع أو ميدان في البحرين اعترافاً بجهوده، وتثمينا –ولو بشكل متأخر- لتقريره التاريخي الذي حسم إلى الأبد عروبة واستقلال بلادنا، وتذكيراً للأجيال الجديدة بمنعطف تاريخي كان فيه لذلك الرجل دور كبير لا ينكره إلا مكابر. محاضر أكاديمي في العلاقات الدولية والشؤون الآسيوية البريد الالكتروني:elmadani@batelco.com.bh