في دراسة نشرت له مؤخراً، قرر الزميل البروفسور "بورنيندرا جين" من معهد الدراسات الآسيوية في جامعة "أدليد" الأسترالية، بأن دخول المجال النووي للأغراض السلمية، وتحديداً لإنتاج الطاقة البديلة للفحم أو النفط، صار يحتل ركناً بارزاً في سياسات العديد من الدول الآسيوية الكبيرة والصغيرة على حد سواء، بما فيها أستراليا. ويضيف أن التوقعات تشير إلى أنه لن يأتي منتصف القرن الجاري إلا ومعظم الدول الآسيوية، التي نأت بنفسها حتى الآن عن خوض هذا المجال أو واجهت الفكرة برفض مطلق، تملك منشآت نووية للأغراض السلمية. والحقيقة أن ما ذهب إليه البروفسور "جين" صحيح وتسنده أدلة كثيرة. فالدول الآسيوية الكبرى التي دخلت المجال النووي قبل عدة عقود تسعى اليوم إلى زيادة أعداد محطاتها ومفاعلاتها النووية. وتلك التي لم يعرف عنها خوض التجربة من قبل، إما أنها تعمل حالياً على استكمال منشآتها النووية السلمية، أو تجري الأبحاث والدراسات التمهيدية لإقامة مثل هذه المنشآت، أو تلمح إلى احتمال لحاقها بجاراتها في المستقبل القريب. وتكفي هنا الإشارة إلى أن 17 من أصل 28 مشروعاً لإنتاج الطاقة من المفاعلات النووية في العالم، يجري تنفيذه في آسيا. أما العوامل التي لعبت دوراً تحريضياً على هذا الصعيد فعديدة، من بينها المخاطر المحيطة بتأمين إمدادات كافية من النفط والغاز المستورد من منطقة الشرق الأوسط المضطربة، وارتفاع أسعار هاتين السلعتين بصورة مذهلة في السنوات الأخيرة، والمشاكل المناخية والبيئية الناجمة عن استخدام الوقود التقليدي. ومن بينها أيضاً أن الحراك الاقتصادي الهائل الذي تعيشه آسيا بتداعياته الإيجابية على النشاط الصناعي ومستويات المعيشة، أدى إلى زيادات متتالية وغير مسبوقة في الطلب على الطاقة، وبما لا يمكن مقابلتها على المدى الطويل بالمتوفر أو المستورد من مصادر الطاقة الأخرى. أضف إلى ذلك أن مادة اليورانيوم اللازمة لإنتاج الوقود النووي باتت متوفرة وبأسعار أرخص من النفط والفحم، بدليل ما جاء في التقرير الذي أصدرته منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي في عام 2005 من أن مناجم جديدة لليورانيوم، قد اكتشفت في العالم، وأن عدد الدول التي تنتج هذه المادة قد ارتفع إلى 19 دولة، وأن دولاً معروفة في هذا المجال مثل أستراليا وكازاخستان وناميبيا قد توسعت في الإنتاج بصورة ملحوظة في الفترة ما بين 2003 و2005. غير أن هذا لا ينفي أن السباق النووي السلمي في آسيا يلقى معارضة شديدة من نشطاء وأحزاب ومنظمات محلية كثيرة تحت حجج مختلفة. وفي هذا السياق تمت الإشارة على وجه التحديد إلى ثلاثة أمور:صعوبة ضمان عدم تحول البرامج النووية السلمية إلى عسكرية، مع الاستشهاد بما قاله رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية محمد البرادعي في العام الماضي حول وجود نحو 30 دولة قادرة على صناعة السلاح النووي بفضل ما تراكم لديها من خبرات وتكنولوجيات كنتيجة لبرامجها النووية السلمية. وصعوبة ضمان سلامة وأمن المنشآت النووية للحيلولة دون وقوع كوارث خطيرة كتلك التي حدثت في تشيرنوبل في عام 1986 أو تلك التي وقعت في محطة نووية في ولاية بنسلفانيا الأميركية في عام 1979. وأخيراً ضخامة تكاليف بناء وإدارة المنشآت النووية، والتي لا يمكن توفيرها إلا من خلال التضحية بمشاريع أخرى أو تحميل الميزانية العامة لديون مرهقة. وإذا ما استعرضنا التوجهات النووية لكل دولة آسيوية على حدة، بعيداً عن حالتي الهند والصين اللتين تبدوان ماضيتين قدماً في بناء المزيد من المنشآت النووية السلمية لمواجهة الزيادات الحالية والمستقبلية للطلب على الطاقة الكهربائية، وحالة فيتنام التي شرعت بالفعل في إقامة أولى محطاتها النووية على أن تستكمل وتدخل مجال العمل بحلول عام 2017، فإننا نجد الآتي: في اليابان التي تعتبر ثالثة دول العالم من حيث عدد المحطات النووية السلمية بعد الولايات المتحدة وفرنسا، يجري الآن بناء المزيد من هذه المحطات طبقا لخطة تستهدف رفع اعتماد البلاد على الطاقة المولدة من النووي من 30 بالمئة حالياً إلى 40 بالمئة خلال السنوات العشر القادمة، مع ملاحظة توخي طوكيو الحذر الشديد، الناجم ربما من حادثة تسرب صغيرة وقعت في عام 1999 لمفاعلها النووي في "توكيامورا". وفي هونج كونج التي ظلت لعقود طويلة تعتمد على النفط والفحم المستوردين كمصدر لتوليد الطاقة، هناك اليوم ضغوط هائلة للتشبه بالصين في توليد الطاقة من النووي، مصدرها تلوث هواء الجزيرة بصورة غير مسبوقة كنتيجة لتوسعها في استخدام الفحم والديزل، ناهيك عن الملوثات الصناعية القادمة عبر الحدود من البر الصيني. وطبقاً لتقرير صدر مؤخراً عن مؤسسة "ميري لينش"، هناك احتمالات قوية بأن تخسر الجزيرة موقعها المتميز في عالم المال والأعمال لصالح سنغافورة، ما لم تبادر سريعاً إلى الاعتماد على طاقة نظيفة وصديقة للبيئة. وفي ماليزيا، التي تعتمد في توليد الطاقة على مصادرها الذاتية من النفط والغاز والفحم، هناك تلميحات رسمية حول احتمالات اضطرارها لدخول المجال النووي بحلول عام 2020 كحل لمواجهة الطلبات المتزايدة من ناحية، وحماية البيئة من ناحية أخرى. وهذا يصدق أيضاً على تايلاند التي شرعت هذا العام في إجراء دراسات وأبحاث حول الطاقة النووية تمهيداً لما يُقال عن عزمها على بناء أولى محطاتها في عام 2020 أيضاً. أما إندونيسيا التي تحولت من مُصدر للنفط ومشتقاته إلى دولة مكتفية ذاتياً، بل مهددة بنضوب احتياطياتها في وقت قريب، فإن رئيسها "سوسيلو بامبانج يودويونو"، أعلن رسمياً في العام الماضي عن نية حكومته استكمال أولى محطات البلاد النووية بحلول عام 2010 وبتكلفة تصل إلى 1.6 بليون دولار، علماً بأن جاكرتا كانت قد وضعت طموحاتها النووية على الرف في عام 1997 بسبب الأزمة النقدية الآسيوية وصعوبة تأمين الأموال اللازمة وقتذاك. وبحسب تصريحات الرئيس، فإن لدى بلاده خططاً أخرى لبناء أربع محطات جديدة بحلول عام 2025 لإنتاج ما مجموعه 6 غيغاوات من الكهرباء، وذلك بعدما حصلت جاكرتا على الضوء الأخضر من الوكالة الدولية للطاقة الذرية في أكتوبر 2006، ووقعت اتفاقية للتعاون المشترك في هذا المجال مع كوريا الجنوبية في ديسمبر 2006، ناهيك عن إعلان أستراليا استعدادها لتقديم المساعدة في صورة شحنات من اليورانيوم بموجب اتفاقية التعاون الأمني الثنائي الموقعة في ديسمبر الماضي. والجدير بالذكر أن أستراليا تحوز على نحو 40 بالمئة من إنتاج العالم من اليورانيوم، وتعتبر الثانية بعد كندا في تصدير هذه المادة على مستوى العالم. وعلى الرغم من وجود مؤشرات قوية تقول بأن إندونيسيا التي يسكنها أكثر من 220 مليون نسمة، ستواجه أزمة في الطاقة الكهربائية بحلول عام 2025 وأن حجم الطلب وقتذاك سيفوق 450 تريليون وات، فإن طموحات جاكرتا النووية السلمية تصطدم بعقبات داخلية وسط جدل في البرلمان ومعارضة شديدة في الشارع من جماعات البيئة. ومعظم هذا الجدل إن لم يكن متركزاً على ضخامة الأعباء المالية للمشاريع النووية، فإنه يتركز على مخاطر تسربات إشعاعية محتملة بفعل تخريب متعمد من قبل الجماعات الإرهابية الناشطة في البلاد أو بفعل هزات وكوارث طبيعية في بلد معروف بمثل هذه الكوارث، الأمر الذي سيلحق الضرر حتماً بعشرات الملايين من البشر، ولاسيما في جزيرة "جاوا"، التي تضم 65 بالمئة من سكان إندونيسيا وتعتبر إحدى أكثر المناطق في العالم لجهة الكثافة السكانية.