في أواخر الشهر الماضي، أطلق الطبيب الأفغاني المقيم في الولايات المتحدة خالد حسيني عمله الروائي الثاني تحت عنوان "ألف شمس مشرقة ". ومثل روايته الأولى "طواف الطائرة الورقية" التي أطلقها في عام 2003، والتي ظلت على مدى عامين من ضمن أكثر الكتب مبيعاً في العالم، بدليل طباعة أكثر من أربعة ملايين نسخة منها، جاءت الرواية الجديدة لتتناول صوراً من العلاقات الإنسانية المضطربة على خلفية الأحداث التاريخية والتحولات السياسية، التي شهدتها أفغانستان ما بين عامي 1959 و2003، مع فارق أن مضمون العمل الأول، كان عن علاقة جمعت ما بين صبيين، بينما الكتاب الثاني يتناول صداقة جمعت ما بين امرأتين، لكل منهما خلفية اجتماعية وثقافية مختلفة، لكنهما تلتقيان في تجسيد طموحات المرأة الأفغانية الباحثة عن الحرية والانعتاق من أسر التقاليد الظالمة وهيمنة الذكورة المتشددة. ولو أن المؤلف تأخر بضعة أسابيع في إطلاق عمله الثاني، لكان حتماً أضاف إليه صوراً جديدة من واقع ما تعرضت له اثنتان من نساء بلاده النجيبات مؤخراً. فمن بعد قيام مجهولين باغتيال مذيعة الأخبار الشابة في قناة "شمشاد" التلفزيونية الخاصة شكيبة سانجا أماج (22 عاماً) داخل منزلها في كابول في 13 مايو المنصرم، قام متشددون يعتقد أنهم من أتباع نظام "طالبان" البائد في السادس من يونيو الجاري، باقتحام منزل التربوية والمذيعة زكية زكي (35) في شمال كابول، وأفرغوا في جسدها بوحشية ثماني رصاصات على مرأى ومسمع من صغيرها ذي السنوات الثماني، دون أن ترقّ قلوبهم لصرخات ودموع وتوسلات الأخير. وبطبيعة الحال، فإن ما حدث لـ"زكية"، التي نعاها بيان رسمي من منظمة اليونيسكو، حدث من قبل وبصور مختلفة للكثيرات غيرها من نساء أفغانستان، ممن تحدين القهر والإذلال وامتلكن الجرأة لمقاومة الفرمانات الخاصة بالتزام المنزل، وعدم الخروج للعمل أو الدراسة، أو التسوق وعدم الاختلاط أو التحدث مع الغرباء، أو ارتداء الملابس غير التقليدية، أو وضع المساحيق أو الاستماع إلى الموسيقى طيلة سنوات حكم "طالبان" الأرعن ما بين عامي 1996 و2001. تشهد على ذلك الصور الموثقة الكثيرة لعمليات إعدام النساء في ستاد كابول الرياضي أو غيره. غير أن حادثة تصفية هذه السيدة لها دلالات مختلفة، ويمكن إدراجها ضمن محاولات "الطالبانيين" وأشباههم من قوى الإسلام السياسي المتشددة، التي تعي جيداً دور جهازي الإعلام والتربية في تشكيل ثقافة المجتمع، فتستميت من أجل الهيمنة وفرض الوصاية عليهما، فإن حالت الظروف دون ذلك لجأت إلى إخماد صوت العاملين فيهما، ولاسيما الإعلاميات والتربويات من ذوات الفكر المنفتح والمبادرات الجريئة، بالتهديد والقتل. وزكية لم تكن بطبيعة الحال مجرد امرأة أفغانية عادية مهمومة بقوتها وقوت عيالها، وإلا لما صارت هدفاً للتصفية، وإنما كانت من أولئك الطليعيات اللواتي أخذن على عاتقهن في حقبة ما بعد "طالبان" الاضطلاع بمهام تنوير المجتمع وتثقيفه وإطلاعه على حقوقه الآدمية من خلال العمل في مجالي التربية والإعلام. وليس ذلك فحسب، وإنما امتلكت أيضاً شخصية قوية ذات ملكات ومواهب متعددة وقدرات مشهودة على إطلاق المبادرات، يسندها تفاؤل دائم بمستقبل أكثر إشراقاً لوطنها، وتعززها روح جميلة منفتحة على كل الأطياف. فأثناء محاولات "الطالبانيين" في عام 1997 التقدم شمالاً لاكتساح مواقع الزعيم الراحل أحمد شاه مسعود، وعلى خلاف الأخريات اللواتي هجرن منازلهن ورحلن بعيداً، لم تأبه بما كان يدور حولها من قصف صاروخي وإحراق للمزارع، وفضلت البقاء داخل منزلها مع أطفالها ومواشيها، على رغم ندرة الطعام وشح المياه، وذلك من منطلق تفاؤلها بأن الأيام الصعبة لابد وأن تتلوها أيام جميلة. وهو ما حدث فعلاً بعد سبعة أشهر حينما تم إجبار الميليشيات "الطالبانية" على التقهقر وعاد زوجها من جبهة القتال سليماً إلا من بعض الإصابات، التي لم تكن تختلف عما أصاب جسده طوال 28 عاماً من القتال في جبهات مختلفة. وحينما انزاح كابوس "طالبان" عن البلاد في عام 2001 بادرت إلى إطلاق إذاعة محلية بقوة 500 كيلووات ويصل بثها إلى كابول وخمس ولايات أخرى تحت اسم "راديو صلح" أو إذاعة السلام، وذلك إيماناً منها بأن البث الإذاعي، هو وسيلة نموذجية في بلد يعج بالأميين والأميات كأفغانستان لمد الناس بآخر التطورات، وتحريرهم من الأوهام والخرافات والتقاليد البالية، وتعويدهم على التفكير المستقل والحوار الديمقراطي، وتشجيع النساء على الاضطلاع بدور محوري في المجتمع، وإطلاعهن على حقوقهن المنتهكة. ومن هنا، فإن أكثر ما ركزت عليه زكية في إذاعتها إلى جانب الفقرات الدينية والموسيقية، كان البرامج الحوارية من خلال استضافة نماذج حية من الأفغانيات الناجحات في ميادين العمل المختلفة، وبرامج تلقي الرسائل والمكالمات الهاتفية حول المشكلات والصعوبات التي تواجه المرأة الأفغانية في البيئة الحالية المضطربة. وعلى رغم المصاعب المالية التي واجهتها بسبب خلو إذاعتها من الإعلانات التجارية إلا لماماً، والتي لم تخفف منها مسارعة محبي برامجها الكثر إلى مد يد العون، وعلى رغم التهديدات المتتالية من القوى القبلية المحافظة بإخراس إذاعتها، فإنها ظلت مؤمنة بفكرتها ومستمرة في عملها بحماس ونشاط. غير أن هذا لم يكن نشاطها الوحيد. فإضافة إلى عملها الإذاعي بمساندة من زوجها وطاقم مكون من 8 مراسلين ومحررين للأخبار، عملت زكية بالتزامن كمديرة لإحدى مدارس البنات في منطقة "جبل سراجي" بولاية "باروان"، وسط ظروف صعبة ناجمة عن إحجام الكثيرين عن إرسال بناتهم إلى معاهد العلم، فضلاً عن النقص الكبير في الكتب المدرسية ووسائل التربية الحديثة وافتقار المدارس إلى التجهيزات العلمية ومياه الشرب الصحية ووسائل الإيضاح والمكتبات ودور المياه النظيفة. لكن كل هذا لم يزرع اليأس في نفسها، بل كان دافعاً لها للتحرك في كل اتجاه طلباً للمساعدة. وهو ما تجلى في التحاقها في عام 2005 بوفد من التربويات الأفغانيات لزيارة الولايات المتحدة، حيث تلقت مع زميلاتها دورات في اللغة الإنجليزية والكومبيوتر وأساليب التربية والإدارة الحديثة في جامعة نبراسكا، وزرن المدارس المحلية، وعقدن حوارات مع طلبتها ومديريها، كما قمن بالتعريف ببلادهن وما تحتاجه من دعم في قطاع التعليم بمراحله المختلفة. لم تكتف زكية بكل هذا، وإنما دفعها حبها للعمل من أجل بلدها فحسب إلى خوض أول انتخابات نيابية حرة في تاريخ أفغانستان قبل عامين، وهي الانتخابات التي لم تفز فيها، لكنها أبرزت مواهبها كإنسانة واقعية تعرف ما تريد وتجيد مخاطبة الناخبين. من ذلك أنها لم تناقش في حملاتها الانتخابية قضايا الحجاب والخمار والسفور كغيرها، قائلة إنها أمور ثانوية من الأفضل تجاوزها إلى قضايا أهم مثل العنف المتفشي ضد المرأة، وتعليم الإناث الذي هو مفتاح الاستقلالية والشعور بالمساواة والاندماج في سوق العمل، وحماية الأرامل الكثر، اللواتي فقدن دخولهن بمقتل أزواجهن في حروب العقدين الأخيرين من الإذلال والاستجداء في الشوارع، وتوفير الملاجئ اللائقة للأيتام والفقراء والمعوزين.