في ديسمبر من عام 1999، كان عمر "جيفري لوسي" 18 عاماً، عند تم تسجيله للالتحاق بقوات "المارينز" الاحتياطية. ولم يكن والداه، كيفن وجويس لوسي، من مدينة "بيلشرتاون"، بولاية ماساشوسيتس، سعيدين بذلك القرار، إذ كانا يريدان لابنهما الالتحاق بالجامعة، بدلاً من أن يكون جندياً. وكان "جيفري" نفسه متضارب المشاعر والانفعالات إزاء قراره ذاك. وقد حدثتني والدته "جويس لوسي"، عن أن مسؤول التوظيف في تلك الوحدة التي التحق بها ابنها، كان مهذباً ولطيفاً جداً، وذلك عبر مكالمة هاتفية أجرتها معي من "أورلاندو"، بولاية فلوريدا، حيث كانت تمضي هي وزوجها واثنتان من بناتها، عطلة سنوية، في الأسبوع الماضي. وقالت لي "جويس" في تلك المكالمة: "نحن نرى جيفري في كل شيء تقريباً... وفي صورة كل صبي صغير فاحم الشعر. ومتى ما رأينا أباً يوبّخ ابنه، تسيطر علينا فكرة أن نذهب إليه، لنقول له ألا يفعل، لأنه لا يدري كم من الوقت سيمضيه معه ذلك الابن. يذكر أن يوم الاثنين الماضي، قد صادف مرور الذكرى الرابعة للحرب على العراق. ومع بدايات شن الحرب، كان أنصار الحرب والمتحمسون لها، على امتداد الولايات المتحدة الأميركية، قد انبهروا بنتائج النصر العسكري الخاطف، الذي حققته استراتيجية "الصدمة والرعب" التي نفذ بها الهجوم الأميركي، وكانت السماء الأميركية قد ضجت حينها بصيحات وتهليلات النصر: أميركا .. أميركا.. أميركا. أما "جيفري لوسي"، الذي كان قد بلغ 22 من عمره، قبيل شن الحرب، فقد كانت له رؤية مغايرة لصيحات وتهليلات النصر هذه. وبفضل شعوره الخاص بويلات الحرب، فقد كان خلواً من أية أوهام مجد أو نصر عسكري. وكان حينها قد تم تفعيل وحدة احتياطي قوات "المارينز" التي التحق بها، وكان عليه أن يكون من بين أفراد الدفعة الأولى من الجنود الأميركيين، الواجب إرسالهم إلى مواقع القتال في العراق. وبعد أن ذهب إلى هناك، وشرع في تسجيل يومياته في تلك الساحات المليئة بالعنف والقتل والدماء، سجل "جيفري" ملاحظة عن انفجار أحد صواريخ "سكود" بالقرب من وحدته. وقال في تلك الملاحظة: "لقد كان دوي الانفجار، أقرب من أن يمزق طبلة أذن كل من كان هناك. وما من جندي من الموجودين معنا، إلا وقد كاد قلبه يتوقف عن الخفقان بسبب هول الدوي ورعبه، بينما كان طبيعياً أن تتهيج الأعصاب وأن يجف الدم في العروق". وبعد أن أمضى "جيفري" مدة خدمته الميدانية العسكرية وعاد إلى الوطن، كان قد عاد حطاماً نفسياً، لا علاقة له البتة، بذلك الصبي الغض الغر، الذي غادر بيته معافى وممتلئاً بالحيوية وحب الحياة ذات يوم. وعلى رغم صعوبة التحقق من هول كل القصص المرعبة التي كان يحكيها عن تجاربه في ساحات القتال، فإنه من المؤكد أن تلك التجارب والذكريات، قد ألحقت به دماراً نفسياً هائلاً، لم يعد من سبيل إلى علاجه منه. ومن أوضح معالم ذلك الدمار، أنه كان لا يكف عن شرب الخمر، وتحول إلى شخص منطوٍ ومنعزل عن أصدقائه، وأصبح شديد العصبية وفاقداً للسيطرة على تصرفاته كلها، إضافة إلى معاناته من الكوابيس والهلوسة المستمرة. وفي لحظة يأس عارم سيطر عليه عشية عيد الميلاد، قذف "جيفري" بشارته العسكرية في وجه أخته قائلاً لها: "ألا تعلمين أن أخاك قاتل ودموي"؟ وعموماً فقد تجلت في سلوكه وتصرفاته، كافة أعراض الاكتئاب النفسي الحاد، واضطرابات وتوترات ما بعد الصدمة النفسية. وتلك الأعراض هي ما تفعله الحروب بالبشر. فهي تمزق العقول والأرواح، بقدر ما تفعل الطلقات بالجسد. والحقيقة أن حرب العراق، قد ألحقت أضراراً نفسية بالغة بالجنود الأميركيين، أكثر مما يتصوره أو يعيه الكثيرون. وعلى رغم المساعي التي بذلتها أسرة "لوسي"، من أجل تأمين المساعدة اللازمة لابنها، اتضح أنه ليس في مقدور الجيش ولا إدارة قدامى المحاربين، التعامل مع تلك الحالات المتزايدة من الاضطرابات النفسية التي يتعرض لها جنودنا في العراق. وفي مساء 22 يونيو من عام 2004، عاد الأب إلى البيت، ونادى على ابنه، إلا أنه لم يتلقَّ أي إجابة أو علامة على وجود الابن. ولاحظ الأب أن باب القبو كان مفتوحاً وأن أنواره كانت مضاءة. غير أنه لم يلحظ الرسالة القصيرة التي تركها "جيفري" في الطابق الأول من البيت لوالديه: "إنها الرابعة والخامسة والثلاثون دقيقة، وأنا أكاد أنهي موتي. أبي أرجوك ألا تنظر... أمي عليك باستدعاء الشرطة. لكم حبي... جيف". وما أن نزل الأب إلى القبو، حتى استرعى انتباهه تسلسل الصور التي وضعها "جيف" هناك: فقد كانت هناك صورة للكتيبة العسكرية التي كان يعمل بها، وهناك صورتا أختيه، ديبرا وكيلي، ثم صورة أخرى لوالديه، ثم صورة كلب العائلة، وصورته هو أخيراً. وكان الأب قد ظن في بادئ الأمر أن ابنه يقف هناك في أقصى القبو، إلى أن لاحظ أنه كان جثة هامدة، وقد التف خرطوم مياه بلاستيكي حول عنقه. وبعد أن تكشفت لها حقيقة المأساة، أملت عائلة "لوسي" في أن تلفت نظر الآخرين إلى حجم المعاناة النفسية المريعة، التي يمر بها عدد كبير من الجنود الأميركيين العائدين من العراق، وذلك بالحديث إلى آباء آخرين عن تجربة "جيف". وأكد "كيفن لوسي"، سماعه للعديد من قصص الانتحار بين الجنود العائدين من العراق. ويأمل "كيفن لوسي" أيضاً، في أن يدفع حديث عائلته عن ابنها، آباء جنود عائدين آخرين، لفعل ما هو أفضل مما فعلته هي لابنها الذي فقدته. وأوضح "كيفن" أن عائلته لم تكن بالدراية الكافية بما كان يجب فعله، وكانت النتيجة أن راح "جيف". على أن هذه العائلة، ليست مجرد أفراد مكلومين ومتحسّرين على فقدهم ومصابهم الجلل فحسب، وإنما هم غاضبون أشد ما يكون الغضب أيضاً. ولذلك فقد انضمت العائلة إلى منظمة معادية للحرب، منظمة "صوت العائلات الحربية"، التي تطالب بوضع حد للحرب. وبحسب رأي العائلة، فإن ذلك هو الطريق الوحيد، للحيلولة دون تكرار حوادث مأساوية أخرى، مثل تلك التي تعرض لها "جيف". بوب هربرت كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "نيويورك تايمز"