أخيراً أصبح بالإمكان القول الآن إن العرب وأغلبية الأميركيين قد اتفقوا على شيء، وهو أن "تقرير بيكر- هاملتون" عن العراق كان مجرد مضيعة للوقت. وعلى الرغم من أن إعداده قد استغرق 9 شهور، وأنه قد أحيط بدعاية واسعة النطاق، فإن هذا التقرير الذي أعدته "مجموعة دراسة العراق"، لم يقدم حلاً للمأزق الذي تواجهه الولايات المتحدة في هذا البلد، كما أنه لم يقدم بديلاً واحداً جدياً للمسار الحالي هناك. والواقع أنه يمكن وصف كل توصية من التوصيات التي قدمتها المجموعة المكونة من أعضاء ينتمون للحزبين الرئيسيين، بأنها غير واقعية، وخيالية، وغريبة، ومضللة، وقائمة على الوهم. فالاقتراح الداعي إلى خفض العدد الحالي من القوات (140 ألف جندي) والقيام في نفس الوقت بإلحاق 40 ألفاً من العسكريين الأميركيين بصفة مستشارين بوحدات الجيش العراقي، ليس سوى ضرب من الجنون. إن معنى هذا الاقتراح هو ترك القوات التي ستبقى في العراق بعد تخفيض العدد الحالي تحت رحمة المتمردين -سواء من العراقيين أو الأجانب- والخاطفين والعملاء الإيرانيين. وإذا ما كانت السنة الماضية قد كشفت عن شيء، فإن هذا الشيء هو عدم وجود ما يمكننا أن نطلق عليه قوات الجيش والأمن العراقية. فالموجود حالياً ليس سوى جماعات من المليشيات الشيعية والكردية التي تمارس القتل، وترتدي زياً واحداً قد يكون زي الجيش أو قوات الأمن، ولكنْ كل منها تسعى لتنفيذ أجندات خاصة بها. ومعنى ذلك أن تلك المليشيات التي تتشكل منها قوات الجيش والأمن، ستقوم إذا ما توقفت عن التقاتل فيما بينها، بالتحول لقتل الجنود الأميركيين الذين سيتم إلحاقهم بالجيش والأمن للعمل كمستشارين، وسيصبح هؤلاء المستشارون في تلك الحالة فريسة للخاطفين الذين سيقبضون عليهم من أجل الحصول على فدية أو من أجل مبادلتهم بمساجين عراقيين، أو تعذيبهم، أو قتلهم ثم التمثيل بهم. أما ما يقترحه التقرير بصدد ربط الانسحاب الأميركي بتطور أداء جيش عراقي غير موجود في الواقع العملي، فلا يمكن اعتباره بداية جيدة للعمل. فالبنى الأمنية التي حاولت القوات الأميركية تكوينها في العراق أخفقت في الالتزام بقواعد الضبط والربط العسكري التي لا يمكن بدونها أن يقوم أي جيش، وذلك رغم المحاولات المتوالية التي بذلها الأميركيون من أجل تدريب تلك الوحدات. وحتى في الحالات التي يتم فيها بناء وحدات بالفعل، فإن تلك الوحدات سرعان ما تتفكك خلال فترة قصيرة من الوقت، وهو ما يرجع إلى عجزها عن العمل كما تعمل وحدات أي جيش نظامي حقيقي، وذلك بسبب غياب القيادة وغياب الهدف وغياب الرؤية التي توحد مثل تلك الجيوش. تضاف إلى ذلك حالة ووضع الحكومة العراقية ذاتها. فتلك الحكومة في حقيقة أمرها ليست سوى مجموعة من أصحاب المصالح الذين ينتمون إلى جماعات مختلفة في المجتمع العراقي، وهي جماعات تسعى كل منها إلى الإثراء دون أن يربط بينها أي هدف وطني. ومن الاقتراحات التي لا تقل عما سبق غرابة، ما يوصي به التقرير الولايات المتحدة من ضرورة العمل على شن "هجمة دبلوماسية" من أجل بناء إجماع دولي حول الاستقرار في العراق. والسبب الذي يدعو إلى وصف هذا المقترح بالغرابة هو أن كل دولة من الدول المجاورة للعراق، تمتلك أجندة خاصة تتعارض مع أجندات باقي الدول فيما يتعلق بمحصلة الوضع في العراق، أو الشكل الذي ستستقر عليه الدولة في ذلك البلد في نهاية المطاف. فإيران تقوم بتأييد جماعات معينة بحيث تكون الدولة التي ستبرز في العراق في النهاية دولة ذات نظام ديني مثل ذلك القائم فيها... أما سوريا فتقوم بتأييد جماعات معينة بحيث يكون نظام الدولة في النهاية صورة من النظام البعثي القائم فيها هي أيضاً. وهناك دول عربية أخرى تقوم بدعم السُّنة حتى يقوموا بزعزعة استقرار العراق الذي يسيطر عليه الشيعة حالياً. فتلك الدول تفضل أن يظل الوضع في العراق مزعزعاً، على أن يقع تحت سيطرة فصيل يعادي مصالحها. علاوة على ذلك فإنه في حالة تكوين أي تجمع إقليمي فإن ذلك التجمع لن يضم قوى متساوية من الناحية العسكرية، لأن الميزان العسكري يميل بشدة لصالح طهران كما هو معروف. والتوصيات المتناقضة التي يتضمنها التقرير والمقدمة من بعض الشخصيات المشاركة في المجموعة، مثل "فيرنون جوردان" الذي يدعو إلى بذل محاولات لرأب الصدع بين السُّنة والشيعة، هي توصيات تدعو للسخرية في الحقيقة. فمثل هذه التوصية تعكس جهلاً تاماً بالإسلام حيث تريد رأب صدع داخل دين مضى عليه ما يزيد على 13 قرناً من العداوات والدماء بين المذهبين الرئيسيين في الإسلام! ثم على أيدي مَن؟ على أيدي مبادرة أميركية تدعو إلى حوار بين المسلمين بدلاً من التناقض والتناحر بينهم! يمكننا أن نقول نفس الشيء عن الاقتراح الخاص بضرورة تجديد الالتزام الأميركي بقضية السلام العربية- الإسرائيلية، بحيث يتم حل تلك القضية من خلال التفاوض بين الجانبين بوساطة أميركية، وهو اقتراح يترك أي أحد لديه خبرة بالمنطقة في حالة من الحيرة والتيه. إذ كيف يمكن لمثل هذا الشخص أن يتوقع أن العراقيين، السُّنة والشيعة والأكراد والمسيحيين والعلمانيين والبعثيين السابقين، الذين يحتربون حالياً ويتصارعون على عوائد النفط، سيتوقفون عن ذلك بمجرد أن يسمعوا عن التوصل إلى اتفاقية بين الفلسطينيين والإسرائيليين بوساطة أميركية على بعد آلاف الأميال من بلادهم. أما الاقتراح الذي يفوق كل ما عداه في الغرابة، فهو ذلك الخاص بعقد مباحثات مع إيران وسوريا. إن أهداف تينك الدولتين تحديداً تتناقض تناقضاً جذرياً مع الأهداف الأميركية، بل ومع معظم الدول العربية في الشرق الأوسط، والتي تسعى إلى خلق عراق قادر على الدفاع عن حدوده، ويتمتع بالسيادة والحرية في اتخاذ قراراته. إن إيران وسوريا تسعيان إلى أن يكون العراق ضمن دائرة نفوذهما. ولكي تقوم الدولتان بالاستدارة 180 درجة في سياستهما، فإن الأمر سيتطلب من أميركا أن تقدم لهما هديتين قيمتين: التقنية النووية، ودور أكبر لإيران في الخليج العربي، مع إطلاق حرية العمل لـ"حزب الله" الشيعي في لبنان. وبالنسبة لسوريا تتمثل تلك الهدية في عودة النفوذ السوري إلى لبنان، وقيام أميركا بالضغط على إسرائيل من أجل إعادة هضبة الجولان المحتلة عام 1967 إليها!