أثناء حفل التخرج الذي نظمته أكاديمية "ويست بوينت" العسكرية في 27 من مايو الماضي أعلن الرئيس بوش أمام الضباط بأن "أية خسارة في الأرواح تفطر القلب". وبالطبع لم يكن الرئيس بوش يقصد عشرات العراقيين من المدنيين العزل الذين لاقوا حتفهم على أيدي قوات المشاة الأميركية في 19 من شهر نوفمبر الماضي في مدينة الحديثة، بل كان يعني خريجي الأكاديمية العسكرية 34 الذين قتلوا في العراق وأفغانستان طيلة الأربع سنوات الأخيرة. فمنذ أن كشفت الحادثة لأول مرة من قبل مجلة "تايم" في شهر مارس الماضي والتفاصيل المروعة ما فتئت تطفو إلى السطح، يرويها بشكل خاص الناجون من المجزرة. ويبدو أن الحادثة بدأت عندما أدى انفجار عبوة في مدينة الحديثة شمال شرق بغداد إلى مصرع عريف في الجيش الأميركي، ما تسبب في هياج الجنود ومداهمتهم للمنازل المجاورة، حيث شرعوا في إطلاق الرصاص على الأهالي بشكل عشوائي دون تمييز بين الرجال والنساء والأطفال والمسنين. ولم تتضح الخيوط الأولى للمجزرة إلا بعدما عاد العريف "راؤول بريونيس" إلى أرض الوطن في كاليفورنيا وأطلع صحيفة "لوس أنجلوس تايمز" بأن شعوراً فظيعاً بالألم يتملكه إزاء ما جرى. ورغم عدم انخراطه شخصياً في عملية القتل كما صرح بذلك، فإنه التقط صوراً للمذبحة التي جرت تحت أنظاره وساعد في إخراج الجثث من المنازل. وتأتي هذه الحادثة المعيبة في وقت اعترف فيه الرئيس بوش في لقاء صحفي جمعه مع رئيس الوزراء البريطاني توني بلير بأن فضيحة سجن "أبوغريب" كانت أحد الأخطاء الكبرى التي ارتكبتها الولايات المتحدة في العراق. وهي الفضيحة التي شهدت التقاط صور لسجناء أثناء تعرضهم للتعذيب على أيدي الجنود الأميركيين، حيث أقر الرئيس بوش بأن أميركا مازالت تدفع الثمن غالياً بسبب ما جرى في "أبوغريب". ومع أن الأخبار حول مجزرة الحديثة بدأت ترشح منذ مدة، حيث خضعت وقائعها للتحقيق ما يرجح احتمال معرفة الرئيس بوش بحيثياتها، إلا أنه انتظر إلى غاية يوم الأربعاء الماضي كي يشير إليها قائلا "إني منزعج جدا للأخبار الأولية بشأن ما جرى في الحديثة". وفي هذا السياق يتم استحضار، وإن على نطاق مصغر، مجزرة "ماي لاي" لسنة 1986 بفيتنام التي شهدت مقتل ما يقارب 500 من القرويين العزل على أيدي القوات الأميركية لتصبح رمزاً لمدى استخفاف الأميركيين بحياة الناس الأبرياء. لكن الوضع في مجزرة الحديثة يختلف، حيث ينتمي الضحايا إلى بلد تعترف الولايات المتحدة بسيادته، ومع ذلك من غير المرجح أن يسلم أي من الجنود المتورطين في القتل إلى وزارة العدل العراقية للمثول أمام العدالة طبقا للقوانين العراقية. وكالعادة سيعقد الكونجرس الأميركي جلسات استماع للاطلاع على ملابسات الحادث. وفي هذا الإطار أعلن السيناتور جون وارنر، رئيس لجنة القوات المسلحة في الكونجرس عزمه فتح تحقيق في الموضوع للتأكد من دور القيادة العليا في الجيش وما إذا كانت على علم بالمجزرة في إحالة واضحة إلى الأنباء التي تفيد بتواطؤ القيادة العليا في الجيش وسعيها إلى التغطية على عملية القتل. ولا شك أن هذه الواقعة تضيف المزيد من الأخطاء إلى سجل الهفوات الكثيرة التي ارتكبتها القوات الأميركية في العراق. ويخشى المسؤولون الأميركيون من أن انكشاف هذه الفضيحة قد يضع المزيد من الضغوط على الإدارة الأميركية لجهة وضع جدول زمني محدد لسحب قواتها من العراق، لا سيما وأن هذه الدعوات بدأت تتصاعد من داخل الولايات المتحدة نفسها في ظل الشك الذي بدأ يداخل العديدين حول المهمة الحقيقية لأميركا في العراق، وما إذا كانت فعلا تهدف إلى تحرير العراقيين. دانييل شور كاتب ومحلل سياسي أميركي ينشر بترتيب خاص مع خدمة "كريستيان ساينس مونيتور"