في وثيقة من 49 صفحة صدرت منذ بضعة أيام، قد لا يقرؤها سوى عدد قليل من الأميركيين أو على الأقل ربما لن يقرؤوها بكاملها، أدار الرئيس الأميركي ظهره للسياسة أحادية الجانب، مشدداً على أهمية السياسة متعددة الأطراف في ما يتعلق بالشؤون الخارجية. وبطبيعة الحال، جدد الرئيس بوش التزامه بـ"استراتيجية الأمن القومي للولايات المتحدة" بالحرب ضد الإرهاب وحماية أمن الشعب الأميركي.
والملاحظ أن الوثيقة حافلة بعبارات من قبيل "تعزيز التحالفات" و"العمل مع الآخرين" و"بلورة أجندات للتعاون مع مراكز رئيسية أخرى للقوة العالمية". في مقدمة الوثيقة كتب الرئيس: إن قوة الولايات المتحدة "لا تقوم على قوة السلاح فحسب، بل تقوم على التحالفات القوية والصداقات والمؤسسات الدولية...". وحسب الرئيس الأميركي، "فلابد من تضافر الجهود الدولية المتعددة" من أجل حل العديد من مشاكلنا مثل الأوبئة والإرهاب والاتجار في البشر والكوارث الطبيعية.
والواقع أن الوجهات التي قصدها بوش خلال زياراته الأخيرة إلى الخارج وتلك التي قامت بها وزيرة خارجيته كوندوليزا رايس تعكس الدول التي بات يعتبرها من "المراكز الرئيسية للقوة العالمية". والمثير للاهتمام أن كل هذه الدول تقع في آسيا. وهكذا ذهب بوش بنفسه إلى الهند التي تشكل، إلى جانب الصين، واحدة من القوى الاقتصادية الصاعدة المبهرة في عصرنا هذا. وبالرغم من الجدل الذي أثاره الاتفاق الذي عقده مع الهند حول تطوير الطاقة النووية، والذي ما يزال في حاجة إلى موافقة الكونغرس، فربما لم يكن بوش مخطئا حين أعلن أن الولايات المتحدة "تجاوزت عقوداً من انعدام الثقة" لتضع "العلاقات مع الهند، التي تعد أكبر دولة ديمقراطية من حيث عدد السكان، على طريق جديدة ومثمرة".
كما قام بوش أيضاً بزيارة قصيرة إلى باكستان، ولكن من دون أن تتمخض عن تأييد مماثل لبرنامج باكستان النووي. ومعلوم أن باكستان كانت اعترفت بتصديرها بعضا من خبرتها النووية إلى دول "غير نموذجية"، إلا أن الرئيس الباكستاني برويز مشرف اختار منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة في الحرب على الإرهاب، وذلك بالرغم مما كلفه ذلك من ثمن سياسي بسبب معارضة الجماعات الإسلامية الراديكالية. كما حرص على التعاون مع الولايات المتحدة في تعقب "طالبان" وعناصر "القاعدة" بالمناطق المتاخمة للحدود الباكستانية- الأفغانية. والواقع أن باكستان تكتسي أهمية بالنسبة للولايات المتحدة أيضا باعتبارها بلداً مسلماً، وإن لم يكن عربياً، يتمتع ببعض النفوذ في العالم الإسلامي.
وإلى ذلك، زارت "رايس" بلداً إسلامياً وغير عربي آخر هو إندونيسيا. وعلى غرار إسلام أباد، فقد عانت جاكرتا لسنوات من الأنشطة الإرهابية التي تقوم بها جماعات إسلامية متطرفة داخل البلاد. وعلى غرار باكستان كذلك، يمكن أن تشكل إندونيسيا مثالا بالنسبة للعالم العربي لبلد إسلامي كبير ينبذ العنف.
كما زارت "رايس" أيضا اليابان، التي تعد حليفاً ذا أهمية اقتصادية بالغة بالنسبة للولايات المتحدة، إضافة إلى أستراليا التي، وإن لم تكن قوة عسكرية أو اقتصادية في العالم، تعد مع ذلك قوة معنوية كبيرة إلى جانب الولايات المتحدة في العديد من الحملات وبشأن العديد من القضايا. وهي إلى جانب ذلك فاعل رئيسي في شؤون آسيا.
وتبقى الصين التي ينظر إليها العديد من المراقبين باعتبارها قوة اقتصادية صاعدة في آسيا. فخلال حديثه عن الخطوط العريضة لاستراتيجية الأمن القومي الجديدة، قال بوش إن الصين أعلنت أنها اتخذت قرارا يقضي بـ"السير على طريق التطور السلمي". إلا أن نقلتها، يقول بوش، غير مكتملة، معتبراً أنه يجب على زعماء الصين أن يدركوا في نهاية المطاف أنه لا يمكنهم ترك مواطنيهم يخوضون تدريجياً تجربة الشراء والبيع والإنتاج في وقت يتم حرمانهم من الحق في التجمع والتعبير والعبادة.
هذا ومن المرتقب أن يلتقي الرئيس بوش مع نظيره الصيني "هو جينتاو" في واشنطن الشهر المقبل في محادثات القمة التي أرجئت منذ العام الماضي. ويعتزم الرئيس الأميركي التركيز على إصلاح العجز في الميزان التجاري مع الصين، وعدم رغبة بكين في إعادة تقييم عملتها التي تمنح صادراتها، في ضوء سعر الصرف الحالي، امتيازاً كبيراً.
إلا أن الصين لا ترغب على ما يبدو في اعتماد تغييرات كبيرة في وقت تبدو منشغلة فيه بمشاكلها الداخلية. فعندما قدم رئيس الوزراء الصيني "وين جياباو" تقريره أثناء الاجتماع الأخير للكونغرس الوطني الشعبي في بكين، اضطر إلى شرح الطريقة التي يعتزم انتهاجها لمواجهة حالات الاضطراب المتنامية في المناطق الريفية الصينية. ففي الوقت الذي يشهد فيه الاقتصاد الصيني تطوراً ونمواً كبيرين، ما زال فلاحو الصين يعانون من وطأة الفساد وسوء الإدارة من قبل المسؤولين المحليين إضافة إلى مصادرة الأراضي لأغراض التنمية الصناعية. وكان من نتائج ذلك أن ارتفعت المظاهرات المنددة بهذه التجاوزات إلى أن أصبحت مبعث حرج للحكومة المركزية، وخصوصاً ف