في إحدى حلقات برنامج "ليت نايت شو" الذي يقدمه الإذاعي "جي لينو", وردت نكتة قال فيها: "يريدون لنا تسليم موانئنا للعرب، ونحن الذين لا نستطيع حتى تسليم العراق للعرب"! وكانت تلك مزحة ضاحكة مريرة, صاغها له معدو البرنامج, كي يقولها هو فيغرق مشاهديه في موجة من الضحك المثقل بشحنة كثيفة من المغالاة المثيرة لحساسية الآخرين. ومهما يكن، فإن تلك النكتة لم تكن لتخلو تماماً من دلالات حقيقية وواقعية, ذات صلة بالتحديات والمصاعب الكبيرة التي تواجهها الولايات المتحدة في العراق. وتنسحب الدلالات نفسها, على المصاعب والتحديات التي تواجه الإدارة داخلياً, فيما يتعلق بتنفيذ وإكمال صفقة "موانئ دبي" التي تستحوذ بموجبها الشركة المذكورة, على المهام المختلفة التي كانت تتولاها شركة "P & O" البريطانية, المسؤولة عن تشغيل ستة من الموانئ الأميركية الواقعة على الساحل الشرقي. والذي يجب قوله هنا إن المشكلة الناشئة الآن حول هذه الصفقة, إنما مردها إلى عدم كياسة الإدارة وصممها وضعف حسها السياسي.
وهذا وقد بدأت مدة المراجعة الأمنية الشاملة للصفقة, التي تستمر لمدة 45 يوماً, بغرض التأكد من خلو الصفقة من أية مخاطر أو مهددات للأمن القومي. وفيما لو اتسم طرح هذه الصفقة منذ بداية الأمر بالشفافية اللازمة, وتمت فيها استشارة الكونجرس, وتوفرت كل المعلومات والحقائق المتصلة بها للصحافة والجمهور, لكان ممكناً إبرامها وإكمالها دون المرور بهذه التعقيدات التي تمر بها الآن. وبالقدر ذاته كان ممكناً أن تنحسر العناوين الصحفية التي سودت الصحف وملأت شاشات التلفزيونات والمحطات الإذاعية من شاكلة "العرب يختطفون منا موانئنا" في الأيام القليلة الماضية. وعلى هذا النحو كان في وسع الإدارة تفادي حرج سياسي عام, هي في غنى عنه, مع العلم بأن منشأه ليس شيئاً آخر سوى ضعف الاتصال والحساسية السياسية إزاء المسؤولين والجمهور.
وبالمقارنة مع ما يجري حول هذه الصفقة, فلابد من الإقرار بأن التطورات التي يشهدها العراق في الوقت الحالي, لهي أشد خطراً وإنذاراً بما لا يقاس. فنحن الآن في قلب تحديات عراق ما بعد الحرب, التي نواجهها جنباً إلى جنب مع العراقيين. ويتلخص هذا التحدي فيما إذا كان العراقيون سيغتنمون الفرصة السياسية الثمينة التي وفرتها لهم الولايات المتحدة, بإسقاطها نظام صدام حسين وفتح طريق التحول الديمقراطي أمام بلادهم, أم أنهم سيبددون هذه الفرصة, دافعين بذلك بلادهم نحو انفراط العقد العرقي والثقافي والديني والسياسي, والانزلاق التام إلى حرب أهلية شاملة؟
ومما لاشك فيه أن الاعتداء على المساجد والمزارات والمقدسات الدينية وحرقها وتدميرها, مصحوبة بتبادل سفك الدماء العربية على يد العرب أنفسهم –في حين تقف الولايات المتحدة عاجزة عن وقف ما يجري أمام عينيها, بسبب نقص جنودها في أرض العمليات والمعارك اليومية المستمرة- يعد صفحة سوداء قاتمة من صفحات تاريخ عراق ما بعد صدام. وإذا كان القادة الدينيون في الجانبين الشيعي والسني على حد سواء, قد بادروا إلى الدعوة بإعلاء صوت المنطق والعقل, وتجنب الفتنة وحقن الدماء, فإن على القادة السياسيين إطلاق مبادرة مماثلة, يدفنون خلالها خلافاتهم السياسية, ويتسامون عبرها, على طموحاتهم الشخصية والحزبية الضيقة, فاتحين بذلك الطريق أمام تشكيل حكومة وحدة وطنية جامعة, طالما تأخر تشكيلها.
وعلى رغم صعوبة وتعقيد الوضع السياسي الحالي في العراق, فإن ذلك لا يعني استحالة تسويته. يجدر بالذكر هنا أن "بول بريمر" الحاكم المدني الأسبق لعراق ما بعد صدام, قد ذكر في كتابه الصادر للتو "سنتي في العراق" كيف طال التأجيل والمماحكة, تحقيق هدف تشكيل الحكومة المؤقتة, وصياغة الدستور العراقي خلال العام الذي تولى فيه هو إدارة العراق, حسبما هو مقرر خلال عام 2003-2004. وكان تحقيق الهدفين المذكورين يتطلب قدراً كبيراً من المثابرة والدفع والتشجيع والتفاوض اليومي مع مختلف التيارات والأطراف, فضلاً عن استخدام سلاح التهديد والوعيد في بعض الأحيان.
وما أن أُحرز تقدم سياسي ملحوظ, منذ مغادرة "بريمر" العراق أواسط عام 2004, حتى صعَّد الإرهابيون عملياتهم وهجماتهم, التي لم تقتصر على الأميركيين وحدهم, وإنما تستهدف اليوم العراقيين أنفسهم وقبل غيرهم.
وعلى إثر التصعيد الخطير الذي شهدته الأيام القليلة الماضية, أطلقت الولايات المتحدة حملة دبلوماسية قوية, دعا من خلالها الرئيس بوش إلى نبذ ووقف العنف, والشروع في تكوين حكومة وحدة وطنية. وذلك هو الهدف الذي يبذل من أجله السفير الأميركي لدى العراق, زلماي خليلزاد, كل ما بوسعه من تكتيكات وجهود دبلوماسية.
وفيما لو أخفقت هذه المساعي في الوصول إلى أهدافها, فإن تأثيرات انتكاس التحول السياسي في العراق, ستلقي بظلالها السالبة على بدايات انفتاح وتحول سياسي كبير باتجاه الديمقراطية, تشهده الآن عدة دول عربية, على نحو ما نرى في كل من مصر والمملكة العربية السعودية, وغيرهما من دول المنطقة التي تراقب ما يجري في الع