ها هي الأصابع العراقية الملطخة بصبغ الاقتراعات والانتخابات، تؤكد مجدداً نبل وأخلاقية الكفاح من أجل الديمقراطية، وأنها ستكون نصراً كبيراً للإنسانية، فيما لو نجحت وآتت ثمارها وأكلها· غير أن الديمقراطية بحد ذاتها، لا تشكل انتصاراً للأمن القومي الأميركي· ولذلك فإننا لا نزال بحاجة ماسة إلى سياسات تقوم على الاعتراف بمدى أهمية الديمقراطية بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط وما وراءها، على أن يستتبع هذا الاعتراف ويترتب عليه، الوعي بحقيقة أن الديمقراطية وحدها لا تكفي لتأمين مستقبل الولايات المتحدة الأميركية· يذكر أن وزيرة الخارجية كوندوليزا رايس، كانت قد نشرت مقالا في صحيفة ''واشنطن بوست'' (ونشر على هذه الصفحات أيضا بتاريخ 13 ديسمبر الجاري)، تحت عنوان ''تعزيز الحرية وحده··· الطريق الواقعي إلى الأمن''، زعمت فيه ''أن الهدف الذي ترمي إليه إدارتنا الحالية، هو المساعدة في خلق عالم من الدول الديمقراطية التي تحسن الإدارة والحكم، وتستطيع تلبية حاجات وتطلعات مواطنيها، إلى جانب استقامة ومسؤولية سلوكها إزاء النظام الدولي''· وأوضحت كوندوليزا رايس في المقال نفسه، أنه في وسع المخاطر العابرة للقارات، مثل الإرهاب الدولي وانتشار الأسلحة النووية، والجرائم والأمراض الفتاكة، أن تعبر حدود الدول والقارات والبلدان بسرعة البرق، لتصل إلى داخل الولايات المتحدة الأميركية· ومضت رايس أيضاً إلى القول إن الدول الضعيفة والفاشلة، تعمل بمثابة معابر آمنة، تذلل حركة هذه المخاطر وسرعة انتقالها بين الدول والقارات· وعلى الرغم من إصابة وزيرة الخارجية الأميركية لكبد الحقيقة في كل حرف كتبته في ذلك المقال، إلا أن الحل الذي قدمته لتفادي تلك المخاطر والتهديدات التي أسمتها، لم يكن كافياً ولا مقنعاً، للأسف·
والمعروف أن نشر الديمقراطية قد أصبح حجر الزاوية الذي تقوم عليه كافة سياسات الأمن القومي الأميركي· كما لا يوجد هناك أدنى شك في أن الديمقراطية والحرية تمثلان قيماً وتطلعات إنسانية عامة، فضلاً عن كونهما أهدافا نبيلة حكيمة، يجب علينا ألا نتقاعس مطلقاً في ترسيخهما وتثبيتهما· ومن مزايا الدول الديمقراطية أنها لا تجنح إلى شن وخوض الحروب فيما بينها، إلى جانب تحليها بالمسؤولية وحسن الإدارة· لكن وعلى رغم كل هذه المزايا، فلماذا تضليل الشعب الأميركي وصرفه عن جادة الطريق؟ هل لنقول له إن الديمقراطية وحدها تكفي لحماية أمنك القومي ولاستئصال شأفة الإرهاب الذي يحدق بك ليل نهار؟
وعلى رغم كل ما يقال عن مزايا نشر الديمقراطية وأثره على ضمان أمننا القومي، فإن السؤال الذي لا يزال مطروحاً بإلحاح هو ما إذا كان نشر الديمقراطية في العالم العربي، سيثمر نشوء حكومات وأنظمة عربية صديقة وداعمة للمصالح القومية الأميركية؟ وما إذا كانت هذه الحكومات ستكون أكثر فتوراً في تعاطفها مع الإرهابيين والجهاديين، وما إذا كانت ستلجم تنظيم ''القاعدة'' وتحول دون تحقيقه لأهدافه عن طريق الإرهاب؟ وبما أن نشر الديمقراطية قد أصبح العنصر الوحيد الحاسم والمحدد لسياسات إدارة بوش بعيدة المدى في مكافحة الإرهاب، فقد أضحى لزاماً على هذه الإدارة أن تتجاوز خطابيتها الجوفاء، وأن تقدم ما يقنع الناس عملياً بأن استراتيجيتها أحادية النظرة هذه، قادرة على أن تحقق أهدافها بما يعزز الأمن القومي ويقيه من كيد المخاطر المحدقة به· وفيما لو فشلت الإدارة في تقديم ما يثبت صحة رؤيتها لقضايا الأمن القومي ومهدداته، فإنها تكون قد خاطرت مخاطرة كبيرة بوضعها كل البيض الأميركي في سلة واحدة خاطئة، كما يقول المثل الشعبي·
أما نقطة الضعف الثانية في ''وصفة بوش'' هذه لحماية وتعزيز الأمن القومي الأميركي، فتتمثل فيما أوردته كوندوليزا رايس في مقالها آنف الذكر، بزعم أن الديمقراطية وحدها ستمكن الدول الضعيفة من النهوض من عجزها وتلبية حاجات ومتطلبات مواطنيها، علاوة على تمكينها من حراسة حدودها، بما يرفع كفاءتها في مكافحة انتشار جميع المخاطر والمهددات الأمنية العابرة للقارات! ومكمن الضعف في هذه الوصفة هو أن الديمقراطيات الهشة الفقيرة، تظل عرضة دائماً للانقلابات العسكرية وللنزاعات الأهلية الداخلية· ليس ذلك فحسب، بل تفتقر هذه النظم للموارد الحكومية ومؤسسات الدولة التي تمكنها من أداء دورها بكفاءة ومسؤولية·
ولكي لا نطلق القول على عواهنه، فعليك بإلقاء نظرة عامة، من مالي إلى تنزانيا، ومن بنغلاديش إلى إندونيسيا، لترى كيف يعصف الفقر بالديمقراطيات الحديثة الناشئة، وكيف تعجز هذه الدول عن منع الإرهابيين من تنفيذ عملياتهم داخل أراضيها، إضافة إلى عجزها عن الحيلولة دون انتشار الأوبئة والأمراض الفتاكة· وفي كل هذه الأمثلة والتجارب ما يؤكد القول إن ما علينا فعله إزاء أمن هذه الدول ومن ثم أمننا القومي، لهو أكثر من مجرد نشر الديمقراطية وحدها· ذلك أن علينا الانضمام للآخرين في جهد جماعي دولي مشترك، يرمي إلى رفع كفاءة الدول وتحسين مستوى أدائها، عن طريق مكافحة الفقر أو التخفيف من وطأته وحدته على الأق