تقول الحكمة الصينية ''عندما تمتطي النمر من الصعب أن تنزل عنه، ولا مفرّ ربما سوى أن تقتله''· مشكلة جورج بوش مع الصين أنه يمتطي التنّين الأسطوري· بدت آثار ذلك عليه خلال زيارته الأسبوع الماضي للعاصمة الصينية بيكين· معظم الصحف العالمية نشرت صورة ''التكشيرة'' الكوميدية للرئيس الأميركي حين أخفق في فتح باب مغلق، وقال للصحفيين ''كنت أحاول الهرب، ولم أفلح''· وعندما سأله صحفي أميركي عن سبب التوتر البادي عليه أجاب بوش ''ألم تسمع من قبل بإجهاد السفر؟''·
والسفر محكُّ الرجال، كما يقول العراقيون· العاصمة الصينية كانت محطة رئيسية في الجولة الآسيوية للرئيس بوش، والتي أعقبت زيارته ''الكارثية'' لأميركا اللاتينية، حسب صحيفة ''واشنطن بوست''· في مقر القمة الأميركية في المدينة الأرجنتينية ''مار ديل بلاتا'' حاصرته مظاهرات التنديد بجريمة الحرب على العراق، وفي آسيا قصد بوش خيمة جنكيزخان الذي ارتبط اسمه بتدمير أعظم الحواضر الإسلامية ليشكر حكومة منغوليا على دعمها حربه ضدّ العراق· عدد أفراد القوة المنغولية في العراق 131 عسكرياً، وهذا هو حجم التأييد المعنوي للإدارة الأميركية في قارة آسيا التي تضم ثلثي البشرية·
في بيكين لم يجد الرئيس الأميركي مكاناً أنسب للحديث مع مليار و300 مليون صيني من كنيسة بروتستانتية عدد مواليها 10 آلاف شخص فقط· حديثه عن الديمقراطية، وضرورة تعويم عملة اليوان وتعديل الميزان التجاري الذي يميل لصالح الصين ''كالباحث عن قملة في رأس نمر راكض'' حسب المثل الصيني· فالصين، التي كانت تعتبر بلداً فلاحياً تحوّلت خلال الثلاثة عقود الأخيرة إلى عملاق صناعي، وتتحول الآن بسرعة مدوّخة من بلد مصدّر للسلع الرخيصة إلى عملاق استهلاكي، يستورد كل شيء، من الطاقة وخامات المعادن، حتى أجهزة التلفزيون والكومبيوتر الذي تتضاعف مبيعاته فيها كل ثلاث سنوات· وتحتل الصين الآن المرتبة الثالثة بعد الولايات المتحدة واليابان في استهلاك السلع الكمالية والسيارات التي بلغت مبيعاتها في العام الماضي 5 ملايين سيارة، وهي الآن أكبر سوق في العالم للهاتف الجوال، حيث يبلغ عدد مستخدميه 377 مليوناً، ويزدادون بنسبة نحو 8 في المئة كل ثلاثة شهور·
ومعجزة الصين الاقتصادية كالثورة في الثورة· فالبلد، الذي كان ينافس في إنتاج السلع الرخيصة ينافس الآن في شراء السلع الباهظة الثمن· وحصة الصين، طبقاً لإحصائيات ''البنك الآسيوي للتنمية''، 40 في المئة من الاستهلاك العالمي للفولاذ، و30 في المئة من الفحم، و25 في المئة من الألمنيوم والنحاس· وهي المستورد الرئيسي للحبوب وفول الصويا· حتى الأرز، منتوجها الزراعي التقليدي، تجتاح مزارعه الشاسعة مُجمّعات صناعية وتجارية وسكنية· وفي العام الماضي احتلت شنغهاي موقع روتردام، كأكبر ميناء بحري في العالم، وقد عجزت حركة الشحن البحري العالمية، التي تضاعفت خمس مرات خلال العام الماضي أيضاً عن تلبية طلب الصين العالي على نقل السلع منها وإليها·
معدلات استيرادات الصين ازدادت في العام الماضي بنسبة 40 في المئة، والممثلون التجاريون الصينيون ورجال الأعمال وأصحاب الحوانيت يجوسون الكرة الأرضية ويحددون أسعار البضائع في العالم· ويُعتبر الطلب الصيني على السلع مسؤولاً عن ارتفاع أجور الشحن والنقل البحري في العام الماضي خمسة أضعاف، ونسبة 40 في المئة من الزيادة في أسعار النفط خلال السنوات الأربع الأخيرة سببها الصين التي باتت تتفوق على اليابان بحجم استهلاكها للنفط، وقد تضاعف معدل استهلاكها للكهرباء 7 مرات خلال ربع القرن الأخير·
وعلى رغم القفزات الهائلة في الاستيرادات يزيد فائض الموازنة الصينية على 10 مليارات دولار، وتبلغ احتياطياتها من العملة الأجنبية نحو 750 مليار دولار· هذه الأموال أتاحت لها التقدم بعروض لشراء شركات عالمية في صناعة الكومبيوتر (آي بي إم)، وفي صناعة الاتصالات (ماركوني)، وصناعة السيارات (روفر)، وصناعة النفط (يونكول)، وتوظيف ملياري دولار في شركة النفط الوطنية في السودان التي تمتلك الصين 41 في المئة من أسهمها·
هل يعني هذا أن الصينيين ينوون الاستيلاء على العالم؟ الجواب في نصيحة حكيم صيني للإمبراطور قبل أكثر من ألفي عام: ''الاستيلاء على العالم كتسلق الشجرة بحثاً عن سمكة، إنه مستحيل''· والمسؤولون الصينيون يعترفون بأن معدل الدخل السنوي للفرد الصيني لم يبلغ ألف دولار إلاّ في العام الماضي، وهو أقل 30 مرة تقريباً من معدل دخل الفرد الأوروبي والأميركي، ويقرّون بأن بلدهم ما يزال في عداد البلدان النامية الفقيرة التي تسعى إلى توفير الاحتياجات الأساسية لمواطنيها، كماء الشرب والطعام والسكن، ولا يتوقعون أن يلحقوا بالمعدل الحالي لدخل الفرد الأميركي أو الأوروبي قبل 50 عاماً قادمة·
ما سر الهوس إذن بالصين؟ ولماذا أصبحت الهاجس الأكبر لواشنطن؟ الجواب في اعتقاد لستر براون، رئيس معهد الأبحاث ''وورلد ووتش'' في واشنطن، هو أن ''الصين تلسكوب تاريخي· إنها تفرض علينا التركيز على ما يحد