لاشك أن التقرير الأخير الذي أنجزه المحقق الألماني المختص في التحقيقات الجنائية ديتليف ميليس بمساعدة فريقه المكون من مئة شخص وعرض نتائجه على أنظار الأمم المتحدة يشكل خطوة مهمة في طريق العثور على المسؤولين الضالعين في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري الذي اغتيل في 14 فبراير الماضي مع عشرين من رفاقه عندما تعرض موكبه إلى انفجار مهول خلف بالإضافة إلى القتلى ما لا يقل عن 135 جريحاً· وبالرغم من الوقت الكافي الذي استغرقته لجنة التحقيق في إعداد التقرير إلا أنه تبين في النهاية أنه مجرد تقرير مؤقت لم يحسم العديد من الأمور، وهو ما يفتح باب الاحتمال واسعاً أمام مجلس الأمن لتمديد مهمة المحقق الألماني وانتظار نسخة نهائية للتقرير أكثر دقة ووضوحاً لكي تظـهر في شــــــهر ديسمبر المقبل·
وأعتقد أنه لم يكن في وسع أية جهة دولية أخرى عدا الأمم المتحدة، التي تمتلك القدرة والسلطة الأخلاقية، مباشرة التحقيق في جريمة اغتيال الحريري، خصوصا في ظل الوضع المعقد والمتشابك الذي يميز العلاقة بين سوريا ولبنان· وقد تمكن الفريق الأممي المكلف بالتحقيق من فحص جميع المعلومات المتوافرة لديه بما في ذلك المكالمات الهاتفية التي التقطتها أجهزة الاستخبارات، كما قام الفريق بإجراء تحقيقات قضائية مكثفة وحصر الأشخاص المشتبه فيهم· بالإضافة إلى ذلك تقدم العديد من الأشخاص معظمهم فضل إخفاء هويته للإدلاء بشهاداتهم أمام فريق المحققين، وهو ما أسهم في دفع عجلة التحقيق وتقدمه· وقد سمعنا أنه منذ أن نشر المحقق ديتليف ميليس تقريره في 21 أكتوبر الماضي حذفت الأمم المتحدة الإشارات الواضحة التي تورط سوريا مباشرة في الجريمة وتذكر أسماء بعض الشخصيات البارزة في النظام السوري· وقد تم استنتاج وجود قرار ما يقضي بإزالة الأسماء، الذي يعتقد أن الأمم المتحدة هي من أوعز به، بسبب خطأ تقني في إرسال نسخ التحقيق إلى الأشخاص المعنيين في الأمم المتحدة، حيث بدلا من أن ترسل النسخة المعدلة تم إرسال النسخة الأصلية التي تضم الأسماء ليتم سحبها لاحقاً· غير أن ميليس يصر على أنه ''لا أحد خارج فريق المحققين ساهم في صياغة التقرير، كما أن الأمين العام للأمم المتحدة لم يقترح أية تعديلات''·
ويذكر أنه مباشرة بعد وقوع جريمة الاغتيال في 14 فبراير الماضي اتجهت أصابع الاتهام مباشرة وبشكل شبه حصري ناحية دمشق نظراً لعلاقة سوريا بلبنان وقبضة دمشق الاستخباراتية القوية التي كانت متحكمة في ثنايا الأمور وخباياها داخل لبنان بما في ذلك رسم المشهد السياسي والتحكم فيه· وحتى بعد الاغتيال بقليل لم يبد أن هناك تغيراً ما طرأ على تلك العلاقات، حيث ظل اللواء رستم غزالة على رأس منصبه كرئيس للمخابرات السورية في لبنان· ولم يترك التقرير الذي أعده المحقق ميليس بما في ذلك النسخة غير المعدلة أدنى شك أو أي مجال لتخيل سيناريوهات أخرى· فقد أشار على نحو واضح إلى عدد من الأشخاص من ضمنهم مسؤولون سوريون واعتبرهم المشبوهين الأساسيين في جريمة الاغتيال منوهاً إلى عملهم المشترك من أجل تنفيذه على النحو الذي شاهدناه عليه· ويزعم التقرير كذلك أن الرئيس اللبناني أميل لحود الذي يتمتع بعلاقات وثيقة مع النظام السوري تلقى مكالمة هاتفية من أحد الأشخاص مباشرة قبل وقوع الجريمة تشرح تفاصيل الخطة، وهو ما أدى إلى تعقد الوضع أكثر بالنسبة للرئيس إميل لحود الذي كان أصلا يواجه معارضة قوية داخل لبنان· ويزعم التقرير في النهاية أن كبار رجال الأمن السوري واللبناني تعاونوا فيما بينهم لتنفيذ الاغتيال، ثم حاولوا في مرحلة لاحقة إخفاء الأدلة وتغيير موقع الجريمة لتضليل المحققين·
كما ذكر التقرير كذلك أن الشاحنة المحملة بالمتفجرات التي يعتقد أنها شكلت أداة الاغتيال كان يقودها ضابط في الجيش السوري قبل العملية، حيث ظلت بعيدة عن الأنظار في إحدى القواعد العسكرية السورية داخل لبنان محملة بما لا يقل عن 1000 كيلوجرام من المتفجرات· هذا ولم ينتهِ العنف مع اغتيال الحريري، بل شهد لبنان سلسلة من التفجيرات التي استهدفت رجال إعلام معارضين لسوريا وشخصيات سياسية، ثم مناطق مسيحية· ومباشرة بعد صدور تقرير ميليس بادرت كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا بالتحرك المكثف في مجلس الأمن للنظر فيما يمكن عمله بشأن نتائج التقرير· وقد شاءت الصدفة أن يكون وزير الخارجية البريطاني جاك سترو بصحبة نظيرته الأميركية كوندوليزا رايس في زيارة لولاية ألاباما الأميركية عندما صدر التقرير· حينها أدلت كوندوليزا رايس بتعليق مقتضب قالت فيه ''لدينا قضية تشير بوضوح إلى تورط المسؤولين السوريين في اغتيال رفيق الحريري، وإلى عدم إبداء سوريا تعاونها الكامل مع لجنة التحقيق، وتلك تهم تفرض على المجتمع الدولي أن يتخذ خطوات حاسمة لمحاسبة سوريا''·
وبالنظر إلى التصريح الذي أدلى به جاك سترو عقب صدور التقرير أجدني أتفق معه تماما حيث قال ''يعتبر هذا التقرير مثيرا للانزعاج والقلق، إنه دليل آخر على الطريقة التي تنظر بها سوريا